صناع الإعلام.. كيف سحروا أعين الناس واسترهبوهم؟

تاريخ التعديل
6 سنوات 4 أشهر
صناع الإعلام.. كيف سحروا أعين الناس واسترهبوهم؟

بقلمد. صالح الشاعر*

 

حينما تكون ضيفا عند إنسان بسيط الحال، قد يختصر سؤاله لك في كلمتين: «شاي أم قهوة؟»، إن العرض بهذه الطريقة فيه نوع من الذكاء الفطري، إذ يحصر طلبات الضيف في شيئين يمكن للمضيف تلبيتهما بسهولة، ويضيق الخناق على أي اختيار خارج هذين الشيئين.

وقريب من هذا ما تفعله ابنتي ذات السنوات الست، حينما تسألني ابتداء عن لون شعر «العروسة» التي سأشتريها لها، في حين أني، من الأساس، لم أعِدها بشرائها، لكنها تطرح السؤال بما يجعل الشراء أمرا متفقا عليه، ويحصر نقطة النقاش في لون شعرها!

إذا كانت العملية اللغوية لا يمكن إتمامها دون استكمال شروطها الأربعة: المرسل والمستقبِل والوسيلة والسياق؛ فهل يمكن التحكم في الوسيلة والسياق لصياغة اللغة في حوار ما لنحصل على استجابة «فاقد الوعي» كما يحلو للبعض أن يسميها، أي الحصول على الإجابة التي نريدها تماما؟

وهل يمكن التأثير على تفكير الطرف الثاني بحيث يتوجه إلى ما يريده الطرف الأول؟ بمعنى آخر: هل يمكن للصياغة اللغوية أن تبني علاقة مباشرة بين المرسِل والمستقبِل، تجعل أحدهما يتحكم في ردود أفعال الآخر؟

الحقيقة أن هذا الأمر ذو أثر عظيم في المفاوضات السياسية والقانونية، والأعمال التجارية (المبيعات والتسويق)، وفي وسائل الإعلام، وحتى في أي حوار بين طرفين، لكنه ربما يظل مثار جدل وخلاف مدة طويلة؛ نظرا لندرة الدراسات المجراة حوله حتى الآن، ولكونه في كثير من الأحيان يُعد «غير أخلاقي».

 

أداوت لغوية وشروط سياقية

ثمة عناصر ضمن هذا الأمر يمكن تأكيد وجودها بحكم الواقع، بعضها يتعلق بشروط العملية التواصلية، وبعضها يتعلق بالوسائل، فمن ضمن شروطها، على سبيل المثال، أن يخاطَب المستقبِل بلغته الأصلية، وأن يكون المستوى اللغوي المستعمل في الحوار موحدا بين الطرفين، وليس أعلى من المستوى المألوف لدى المخاطَب؛ لأن المطلوب في تلك الحالة أن يقفز العقل إلى الاستجابة المباشرة دون بذل كثير من المجهود؛ فذلك المجهود ينقله إلى حالة اليقظة التي ربما تحبط محاولة التأثير في وعيه، وبعبارات شعبية يفهمها كل إنسان.

ومن ضمن الوسائل المستعملة في وسائل الإعلام على سبيل المثال: الاستبدال، بمعنى إحلال لفظ محل آخر، لرسم صورة ذهنية معينة، ويختلف ذلك باختلاف مصدر الخبر وتنوع المخاطبين به.

ويمكن رؤية كثير من الثنائيات مثل: (المقاومة الوطنية/الإرهابيين، شهداء/ قتلى، هجوم مسلح/عمل إرهابي، قوات/ميليشيات، زعيم الأغلبية/المسؤول الكبير في الحزب، جيش الدفاع/قوات الاحتلال).

فمع الاختيار من بين هذه الكلمات والتعبيرات يتأثر القارئ تعاطفا وشماتة، تشجيعا وتثبيطا، فخرا وشعورا بالعار، وقد تجد الخبر نفسه على موقعين مختلفين وكل منهما يستعمل قاموس ألفاظ خاص، يوافق توجه الجهة المصدِرة والجمهور المستهدَف.

على مستوى أعلى قليلا نجد الدعابة، أو التورية والتلاعب بالألفاظ، التي تحمل قدرا غير يسير من تشتيت الانتباه؛ لما تُحدثه من إجهاد للمخ.

ويجري إدراك المعنى الأصلي المتوقع للكلام من خلال النصف الأيسر للدماغ، ثم يحدث التواصل مع النصف الأيمن الذي يرشد إلى معنى آخر مناقض لم يكن متوقعا، وهذا المزيج من التوقع والتناقض، يُحدث التواصل بين نصفي الدماغ، فتأتي «إعادة التفسير المفاجئة»، كما في المثال الذي ذكرته الدراسة: لقد أحلوا برتقالة محل كرة البيسبول لإضافة بعض الشهية إلى اللعبة!

لا شك في أن التورية تُحدث تأثير الدعابة، لكنها أيضا يمكن أن تكون مسرحا مناسبا لعملية «تضليل» أو «استدراج» أو «تحذير»، وفق سياقها وما يرتبط بها من أحداث محيطة، كما نجد في حوار للرئيس المصري السابق حسني مبارك مع مذيعة أميركية حول استرداد طابا وما إذا كان من الممكن الاستبدال بها بعض الامتيازات التي تحتاجها مصر، إذ قال «هل يمكنك الاستبدال بأحد أطفالك؟، وهكذا كان السؤال تورية تحمل الدعابة والتحذير في الوقت نفسه.

 

التأثير السحري للصور

الصور، رغم كونها وسيلة غير لغوية، يُعتمد عليها في كثير من الأحيان للتأثير في الوعي، ولذلك انتشرت مؤخرا استعانة بعض المواقع الإخبارية بصور قديمة لأحداث مماثِلة، سعيا لتضخيم صورة حدث جديد ليس لديهم من صوره ما يكفي، أو هو مختلق من الأساس، وهذا لأن التأثير الكبير للصور مثبَت علميا، إذ تشير دراسة لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا إلى أن عملية ترجمة الصورة إلى معلومة داخل المخ تستغرق وقتا أقل بكثير من عملية ترجمة النص، فترجمة النصوص تستغرق نحو 100 جزء من الثانية، أما ترجمة الصور فلا تستغرق إلا 13 جزءا من الثانية؛ ولذلك تمثل الصور 90% من المعلومات التي يخزنها المخ، لأن المخ يميل إلى التقاط المعلومات سهلة الترجمة.

ولعلنا ندرك الآن لماذا تمثل الصور جزءا كبيرا من الإدارة الإعلامية للحروب والثورات، ونعلم الأهمية الكبرى مثلا لما تابعناه من خبر القبض على أشخاص يصورون طفلة ترتدي فستانا ملطخا بالدماء، في منزل متهدم بين بورسعيد والإسماعيلية، لفبركة خبر عن حلب وإثارة الرأي العام! بالإضافة إلى كثير من الصور القديمة لشهداء ومصابين في فلسطين قدمتها بعض المواقع الإخبارية وصفحات فيسبوك على أنها ضمن أحداث سوريا.

 

التلاعب بالأرقام

أمرٌ آخر يبرز التأثير في الوعي من خلال الأرقام، يتعلق بالتلاعب بانتباه القارئ، وتستغل بعض المواقع ذلك الأمر سعيا إلى تضخيم بعض الأحداث.

فعلى سبيل المثال يسفر حدث ما عن مقتل ثلاثة أشخاص وإصابة 68 شخصا، فيأتي عنوان الخبر جامعا بين أرقام المتوفين والمصابين في آن واحد؛ ليكون مثلا: مقتل وإصابة أكثر من 70!

وهذا عنوان ليس من الموضوعية في شيء بقدر ما هو إثارة وتضخيم وجذب للانتباه، وربما يكون العنوان على مواقع التواصل الاجتماعي والتفاصيل على موقع الصحيفة فيتقاعس القارئ عن فتح الموقع ويكتفي بهذا العنوان المبتور المضلِّل.

لقد باتت وسائل الإعلام ووكالات التسويق أكثر ذكاء في استخدام اللغة والأرقام والسياق المحيط من صور ومقاطع فيديو وخرائط وغير ذلك، وارتبطت التجارة بالإعلام فصارت لغة الإعلان كذلك صناعة متقنة للتأثير على المجتمع وخلق القوة الشرائية وتوجيهها.

ولذا بات مفهومنا عن الإعلام وفكرة توصيل المعلومة بحاجة إلى إعادة نظر؛ فالعلاقة الجديدة بين اللغة ووسائل الإعلام أنتجت شيئا يتجاوز توصيل المعلومة بكثير، لأنه يهدف مباشرة إلى خلق الرأي العام وصناعة التوجه الفكري لدى المتلقي أو على الأقل التأثير فيه، وربما يكون ذلك تفسيرا لظاهرة أضحت منتشرة أكثر من ذي قبل، وهي أن تجد شريحة كبرى من المجتمع فجأة مقتنعين بفكرة معينة على اختلاف توجهاتهم، وكأنه سحر قد أثر في الجميع على غير اتفاق، وربما تكون هذه هي الطفرة اللغوية القادمة حتما.

 

* المصدر: مدونة الدكتور صالح الشاعر  على شبكة الانترنت، بتصرف يسير.