تتجسد مهارة التعامل مع المكونات الطبيعية والاستفادة منها دون الإخلال بالتوازن البيئي، واقعاً مشاهداً في أحد أشهر جبال مركز "عبس" التابع لمحافظة المجاردة والمعروف بـ"جبل القوس".
ويضم الجبل الشاهق المطل على عدد من القرى، ثلاثة مواقع عرفت بصخورها القوية التي كانت تُصنع منها "الرحى" المستخدمة في طحن الحبوب وإنتاج الخبز المحلي.
وتظهر جولة لـ "واس" في الموقع الحرفية العالية التي كانت تتم بها عمليات قص الأحجار ونقلها، حيث يشير عدد من كبار السن الذين عاشوا في القرى المجاورة للجبل إلى أنه كان يتم قص الأحجار من مواقع محددة بواسطة أشخاص مهرة ومتخصصين يستخدمون أدوات تقليدية مثل "المعول" و"المطرقة"، حيث تتم عمليات التصنيع في المكان نفسه ، وتنقل بعد ذلك على ظهور "الإبل" إلى الأسواق خاصة سوق "عبس" إضافة إلى بعض المنازل.
ويُعد سوق "عبس" الذي ما زالت آثاره قائمة في وسط قرية "الحيد" بمركز "عبس" من أشهر الأسواق التاريخية قديماً، وقد ذكره الباحث الدكتور غيثان بن علي بن جريس في كتابه "بلاد بني شهر وبني عمرو خلال القرنين الثالث والرابع عشر الهجريين" ضمن أهم الأسواق الأسبوعية، حيث قال: "ومن الأسواق الأسبوعية في الأجزاء التهامية سوق السبت بقرية ختبة وسوق الأحد بقرية الحيد ويطلق عليه أيضاً أحد عبس..".
ويصف الدكتور غيثان الدور الذي كانت تقوم به تلك الأسواق بالإشارة إلى أنها " كانت المراكز التجارية المهمة التي يجلب إليها التجار كل ما لديهم من سلع لبيعها"، مضيفاً أنه لم يكن للأسواق التجارية الأسبوعية أهمية محدودة على البيع والشراء فقط، وإنما كان لها دور اجتماعي، فيلتقي الصاحب بصاحبه، ويجري فيها التعارف، وتبادل الأخبار وحل المشاكل والخلافات الفردية والجماعية، وإقامة العدل، ونشر البيانات، وشكر المحسن ومعاقبة المسيء، بالإضافة إلى أن هذه الأسواق هي الأماكن المناسبة لإعلان أوامر الحكومة، وتنفيذ الأحكام الشرعية.
عراقة تاريخية
مركز "عبس" هو أحد المراكز التابعة لمحافظة المجاردة بمنطقة عسير، أسس عام 1401 هـ ويقع في أقصى الشمال الشرقي لمحافظة المجاردة وعلى بعد 35 كيلو متراً من المحافظة، يحده من الشمال والغرب مركز العرضية الجنوبية بمحافظة العرضيات بمنطقة مكة المكرمة، ومن الجنوب مركز "ختبة" التابع للمجاردة ومركز "وادي زيد بمحافظة النماص، ومن الشرق مركز السرح ومركز بني عمرو بمحافظة النماص، وكذلك مركز آل سلمة بمحافظة بلقرن.
وتبلغ مساحة المركز نحو 200 كيلو متر مربع ويبلغ عدد سكانه قرابة الـ 15 ألف نسمة يتوزعون في 45 قرية، ويتميز بموقعة الجغرافي الإستراتيجي، ومطلاته الساحرة، وقُربة من السراة بمسافة لا تزيد عن 13 كيلومتراً، كما يتميز بالأجواء الدافئة في الشتاء والربيع والاعتدال في الصيف والخريف وكثرة الأمطار لاسيما في فصلي الصيف والخريف، حيث يقصده الزوار من جميع محافظات منطقة عسير، خاصة تنومة والنماص التي ترتبط بمركز "عبس" من خلال عدة عقبات من أهمها عقبة "تلاع".
ويزخر المركز بالعديد من القرى والقصور والحصون التراثية التاريخية القديمة والمصاطب والمدرجات الزراعية الجميلة، ويشير الباحث أحمد بن تركي الشهري في حديثه لـ"واس" إلى أن من أبرز القرى التراثية التي تشتهر بها "عبس" و"قرية الفقهاء" وقرية "العروض"، وقرية "آل قيسة" وقرية "ظهير" و"آل الشواف" وقرية "بني غزوان" وقرية "بني قيس" و"قرية الحبيل و"الحضن" بآل عمار وقرية "الحبيل" بالحصنة وقرية" آل مهري" وقرية" آل غبيش" وقرية" آل ضهير" وقرية"الذفرا" بالحصنة .
وعرفت قرية "الفقهاء" منذ مطلع القرن الحادي عشر الهجري بالحركة العلمية وتخرج فيها القضاة والدعاة والأئمة و الوعاظ والخطباء . وفي بداية الدولة السعودية الأولى جرى توجيه بعض مخرجاتها من قضاة وعلماء إلى مناطق القبائل المجاورة لمركز عبس لتعليم أبناء تلك القبائل أمور دينهم وتعليمهم القراءة والكتابة والحكم بينهم بشرع الله مثل النماص والقُرى التابعة لها.
كما تتميز قرية الفقهاء التراثية بموقعها الجغرافي الإستراتيجي وإطلالتها على جميع قرى وأودية مركز عبس، وتشتهر بمبانيها التاريخية القديمة المتناسقة وحصونها وقصورها الشامخة، ونقوشها القديمة الدالة على الحركة العلمية النشطة في تلك الفترة، حيث يغلب على معظم النقوش البعد الديني فمعظمها دونت بعد القرن الحادي عشر الهجري وتشتمل على توثيق لأسماء بعض أعلام المكان وأدعية بالرحمة وطلب نزول الأمطار.
الفن المعماري
تتميز قرى "عبس" بفنها المعماري القديم حيث كانت تُبنى المنازل والقصور والحصون بالحجارة وتسقف أسطحها بجذوع الأشجار مثل شجر (النمي) ، الذي كان يقطع ثم يوضع أثناء البناء وسط المنازل ويسمى بـ"الدعمة" لحمل السقف، وقد توضع جذوع أشجار السدر، لكي تخفف الحمل على المنزل. تتكون بعض المنازل والقصور من عدة طوابق وتتكون من عدة أقسام تسمى "السرحة" و"العلو" و"السفل" و"الداخلة" و"الوشية" و"القترة". والعلو هو الطابق العلوي، والسرحة هي الصالة أو الحوش، أما السفل فهو الدور الأرضي، وتسمى غرفة النوم بـ"الداخلة" والوشية هو المطبخ والقترة هي مكان الإضاءة، الذي يحتوي على "الأثافي" التي توقد فيها النار للطبخ وتحتوي البيوت على سلالم حجرية (داخلية وخارجية) للتنقل داخل المبنى الواحد أو للصعود إلى السطح وربما ربطت هذه السلالم بيوت الجيران ببعضها وكمعظم المواقع التراثية في منطقة عسير تبرز أحجار "المرو" كأحد أهم مظاهر الاعتناء بالشكل الجمالي للقصور أو البيوت التقليدية في مركز"عبس".
ويتم البناء اعتماداً على المواد الأولية من الطبيعة المحيطة حيث تستخدم في البناء الأحجار الصلبة التي تشتهر بها الجبال المحيطة بالقرى مضافاً لها الطين الممزوج بالماء مع العشب الجاف،وتتميز بعض القصور التي كان يسكنها الأثرياء وشيوخ القبائل من خلال طلائها بـ"الجص" الأبيض الذي مازالت آثار صناعته واستخلاصه ظاهرة للعيان في عدة أودية منها "وادي البيضاء" ووادي "مرحب" التابعة لمركز عبس الذي يعتبر من أهم الأودية من حيث الاتساع وجمال الطبيعية وتنوع الأشجار والحيوانات والطيور. وهذا ينطبق على أودية أخرى مثل وادي "بشما" ووادي "ساقين" ووادي "خيره" ووادي "براد" ووادي "وثنه", وتتوزع على جنبات هذه الأودية مزارع حبوب الذرة وأشجار الحمضيات والمانجو والموز والتمور ، وتشتهر "عبس" بإنتاج أحد أجود أنواع العسل مثل عسل "السدر" الذي يحظى بقوة شرائية كبيرة من المستهلكين .
وتُظهر الآثار والمعالم التاريخية والمواقع الطبيعية البكر التي يحويها مركز "عبس" عراقة المكان الذي يحتوي على جميع المقومات السياحية التي تؤهله لأن يكون مقصداً كبيراً للزوار وخاصة في فصلي الشتاء والربيع مع تعزيز الخدمات العامة وتطويرها مثل خدمات المياه وإنشاء الحدائق العامة.
إعداد : حسن آل عامر
تصوير : علي الشهري