حكاية في قطار

أستاذ مشارك بقسم الإعلام والاتصال
تاريخ التعديل
5 سنوات 3 أشهر

لقد أعجبتني رواية جميلة معبرة اطلعت عليها وأنا أقرأ في بحر الأسبوع الماضي كتابا أخذ مكانة كبيرة في المشهد الأدبي الروائي الأوروبي منذ إصداره الأول في عام 2014، يحمل عنوان «مثل أغنية للأمل» للروائي الفرنسي المعاصر وعضو الأكاديمية  الفرنسية الشهير  »جان دورميسيون»  الذي تمتاز أعماله بالعمق الثقافي والفلسفي، وخاصة في تناوله للمسائل التي تثير على الدوام اهتمام البشر في كل زمان ومكان مثل الموت والألم والشر، وقد لخص فيها بشكل مميز عبر أفكاره وآراءه الإبداعية مسيرة حياته التي قال عنها  في مقدمة أحد كتبه «أنا لست آسفا سوى لشيء واحد وهو أنني لم أفعل أفضل مما فعلت في السبيل الذي كنت قد اخترته لنفسي».
هذه القصة الروائية التي استمتعت بقراءتها كثيرا كانت تهدف بشكل أساسي إلى إنارة فكر الإنسان وفعله الحضاري وجعل سلوكه متأنيا في تفسير الأمور والحكم عليها بحيث يتلخص مفادها في أن رجلا عجوزا كان جالسا في قطار متوجها من مدينة مرسيليا إلى العاصمة باريس مع ابن له في مقتبل العمر يبلغ من العمر 25 سنة، وقد بدت على وجه هذا الشاب علامات الفرحة والفضول، فكان يخرج  مرارا وتكرارا يديه من نافذة القطار الذي يسير بسرعة فائقة، ويقول لأبيه بأعلى صوته «يا أبتاه, يا أبتاه, أترى كل هذه الأشجار تسير وراءنا!»؛ فيتبسم والده العجوز متماشيا مع فرحة ابنه.
ووسط هذا المشهد المثير كانت تجلس بجانبهما امرأة جميلة وأنيقة انزعجت كثيرا وهي تستمع إلى ما يدور من حديث بين الأب وابنه وتستنكر التصرف الصبياني لهذا الشاب!
وفجأة وأثناء انهماكها في تصفح مجلة كانت بيدها، يصرخ الشاب مرة أخرى صراخا مدويا مخرجا رأسه من النافذة المبلولة بزخات من المطر الذي بدأ يتهاطل بشكل خفيف «يا أبتاه، أنظر إلى ماء المطر يملأ البرك والأحواض، أنظر إلى هذه الأشجار تمر مر السحاب» واستمر تعجب المرأة من صراخ هذا الابن الذي أشاع الصخب في فضاء المكان وكسر هدوء ذلك المساء البارد من أيام شتاء فرنسا الطويلة.
وسعيا منها لتبديد حيرتها من هذا الأب الذي ما فتئت عيناه تتلألأ بالبهجة والسعادة وهو يتحاور مع ولده الشاب بكل حب واهتمام وبدون أن يبالي بمن حوله سألته غاضبة رافعة صوتها «أيها الرجل العجوز لماذا لا تعرض ابنك على طبيب ليعالجه؟» فأجابها بكل ثقة: إن ابني بعد علاج طويل وبمشيئة الله فقد أصبح بصيرا لأول مرة في حياته وهو سعيد لما يحدث له في هذا اليوم، فأحست بخطئها وقدمت اعتذارها له وهي محرجة بتسرعها في الحكم على هذا الشاب الذي عانى كثيرا من فقد بصره بالجنون والمرض. 
فالكثير من الأمور والأحداث تقع في حياتنا وقد تحمل في ظاهرها تفسيرا معينا سواء أكان إيجابيا أو سلبيا، فالحكمة تقتضي بألا نتبناه وإنما نبحث دائما وأبدا عن البراهين والمعلومات الدقيقة التي تحيلنا إلى الحقيقة التي تزيح الغموض والحيرة عنها وتبعث في نفوسنا اليقين والإدراك الصحيح لها وتجنبنا عواقب سوء الفهم والتقدير.