الأستاذ الدكتور سعيد القحطاني :إقامة المتاحف ضرورةً وطنيةً للحفاظ على التراث الشعبي
قسم التاريخ بالجامعة من أولوياته تسخّيِر إمكاناته لخدمة هذا الجانب في إستراتيجية منطقة عسير
أكد رئيس قسم التاريخ بالجامعة وأستاذ التاريخ السياسي الحديث والمعاصر الأستاذ الدكتور سعيد بن مشبب القحطاني أن إقامة المتاحف ضرورةً وطنيةً للحفاظ على التراث الشعبي, وحماية وحفظ الموروث الثقافي من ناحية، ولتنمية القطاعين السياحي والثقافي من ناحية أخرى؛ فدور المتاحف وأهميتها لا ينحصران فقط في جذب الزائرين على المستويين المحلي والعالمي للاطلاع على موروثاتنا الثقافية والحضارية، وإنما يمتدان أيضًا إلى تعزيز الهوية الوطنية, ونشر الوعي الوطني لدى المواطن بتراثه الثقافي, وأهمية الحفاظ عليه, بوصفه شاهدًا تاريخيًّا على أصالة الشعب السعودي في تلك المنطقة، ويتيح للأجيال القادمة الاطلاع على تاريخها وتاريخ أجدادها، هذا فضلًا عن إطلاع الزائرين الأجانب على هويتنا الثقافية, والتعرف إلينا كشعب ذي تاريخ وثقافة؛ فالمتاحف هي "الذاكرة الثقافية" لأي شعب، وهي الرابطة التي تربط هذا الشعب بماضيه وحضارته، وزيارة المتحف تفيد المواطن في تنشيط هذه الذاكرة، بما يعود بمردود إيجابي على هويته الوطنية, واعتزازه بموروثة الثقافي، وهي أيضًا "نافذة حضارية" تفيد الزائر الأجنبي في التعرف إلى حضارة وثقافة هذا الشعب, ولا تقتصر أهمية ودور المتاحف على ذلك فحسب، بل إن لها قيمةً جوهرية في تشجيع وتنشيط البحث العلمي في مجال حفظ وتوثيق التراث الثقافي.
متاحف منطقة عسير
وبين القحطاني أن منطقة عسير تنفرد بوجود عدد كبير من المتاحف؛ ويعدُّ متحف عسير الإقليمي أهمَّ متاحف المنطقة التابعة لهيئة التراث وأبرزها، بالإضافة إلى متحف قصر المفتاحة الذي يتوسط القرية التي تحمل اسمه, هذا عدا المتاحف الخاصة التي أسسها مواطنون سعوديون من الهواة لحفظ التراث والموروث الثقافي, وقد بلغ عدد هذه المتاحف الخاصة حوالي خمسة وأربعين متحفًا، تمثل ربع متاحف المملكة، مثل متحف الراقدي, ومتحف آل قزع التراثي، ومتحف الحجل الأثري، ومتحف العرض التراثي، ومتحف اليحي، ومتحف سبت العلايا، ومتحف تمنية للتراث، ومتحف الأجيال التراثي. وتضم هذه المتاحف ما يزيد على عشرة آلاف قطعة متنوعة ما بين القطع التراثية والأثرية والفنية, التي توثق الحياة القديمة في منطقة عسير عبر العصور، بل إن بعضها ينتمي إلى حقب تاريخية ضاربة في القدم، وبعضها الآخر يتسم بالندرة, إن لم تكن القطعة الوحيدة التي لا يوجد لها نظائر في أماكن أخرى، وتتنوع مقتنيات هذه المتاحف ما بين: المخطوطات وبعض الوثائق, والعملات, والأسلحة, والأدوات المعدنية والزراعية, وأدوات الزينة والملابس التراثية, وآنية الطبخ, والحرف اليدوية, وألعاب الأطفال, والمجالس التي تمثل المجتمعات الحضرية في المنطقة, كالمجلس العسيري والجلسة التهامية.
وقال" إن هذا العدد الكبير من المتاحف، وهذا الكم الهائل من القطع الأثرية والتراثية والفنية وتباينها، ليكشف لنا عن تنوعٍ خصبٍ في التراث والموروث الثقافي لمنطقة عسير، ويمثل في حد ذاته بنيةً تحتيةً ثريةً لإستراتيجية "قمم وشيم", وترتبط ارتباطًا وثيقًا بالمرتكز الأول لهذه الإستراتيجية "الأصالة المتفردة", والتي تبناها وأطلقها صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز ولي العهد، والأهم من ذلك أنها توضح بجلاء حكمة سموه ونظرته الثاقبة لمقومات ومقدرات هذه المنطقة الثرية, والتي تؤهلها لأن تغدو أحد أهم مقاصد العالم الثقافية في عام 2030م".
كما بين أن للمتاحف أهمية ودور في حفظ التراث الثقافي، فإن مزيدًا من التنظيم والتوظيف الأمثل لهذه البنية التحتية والتخصيص من شأنه أن يسهم في تحقيق تطلعات هذه الإستراتيجية؛ ولعلي أقترح هنا إعادة هيكلة بنية المتاحف الخاصة للمنطقة، وإعادة تنظيمها بما يخدم الإستراتيجية، وذلك بوضع هذه المتاحف تحت مظلة وإدارة واحدة، ومقر واحد؛ لحفظ وصيانة مقتنياتها, تحت إشراف كادر متخصص ومؤهل, أو ربطها بالمتحف الإقليمي مباشرة؛ لإعادة توزيع المقتنيات, وتصنيفها وفقا لحقب التاريخ المختلفة التي شهدتها المنطقة, وتقسيمها إلى قاعات توثق تلك المقتنيات وفقا للتقسيم الزمني السابق الذكر؛ مما ينقل الزائر لها بين حقب التاريخ المختلفة بشكل متسلسل ومترابط؛ ومن ثم تقدم للمشاهد رصدًا حيًّا للأحداث والتطور الحضاري المترابط بعضه ببعض في تناغم مستمر, مبرزا تنوع تراث المنطقة على اختلاف جوانبه, ومن الجدير بالذكر أن هناك العديد من القطع الأثرية التي يحتفظ بها بعض الأفراد كمقتنيات شخصية متوارثة عبر الأجيال غير موثقة, وقد يكون البعض منها غير معلوم المصدر, وتستلزم الإفصاح عنها وتسليمها للمتحف الإقليمي لتوثيقها, والاستفادة منها, وهذا لن يتأتى لنا هذا إلا بتضافر جهود عديد من الجهات الحكومية؛وأردف" لإبراز دور المتاحف في حفظ مثل هذا التراث, وضمان حقوق مالكيها الأدبية والمعنوية, وإتاحة الفرص أمام أهالي المنطقة وزوارها للتعرف على هذه القطع الأثرية ذات القيمة الحضارية, ومن المهم أيضا نقل واستضافة بعض القطع الموزعة التي تتسم بالندرة في المتحف الإقليمي للمنطقة, أو متاحف المناطق الإدارية الأخرى, أو إيجاد متاحف متنقلة يتم استضافتها من قبل الجهات الحكومية والخاصة في إطار من الشراكات المخطط لها و كنوع من الترويج والدعاية لمحتويات تلك المتاحف, والإعلان عن كنوزها الدفينة".
المتحف الزراعي
وأوضح أنه لما كانت منطقة عسير حاضرة زراعية, وقد مثلت الزراعةُ قوامَ اقتصاد المنطقة في أغلب فتراته التاريخية؛ فحريٌّ بنا أن نرصد التطور الذي طرأ عليها كمقوم اقتصادي مهم, وذلك بجمع ما يتعلق بها من وسائل متبعة في الري والزراعة والحصاد والتخزين, وما ارتبط بها من عادات وتقاليد شعبية في متحف زراعي خاص, يبرز أهمية هذا النشاط, وليصبح مركزا ثقافيًّا للزراعة, بحيث يوثق المفاهيم والأساليب والتقنيات الزراعية المتوارثة عبر الأجيال في مناطق عسير كافة,والتي تميزت بتنوع وتباين حاصلاتها وتقاليدها الزراعية, وفي حالة تم إقامة مثل هذا المتحف, فإنه سوف يعدُّ من المتاحف النوعية التي توثق التطور الزراعي في المنطقة, والأولَ من نوعه في المملكة العربية السعودية؛ وهذا المتحف -بلا شك -سوف يخدم رؤية المنطقة الرامية إلى زيادة العناية بالزراعة والاستزراع المائي, ويتناسب مع إستراتيجية التطوير التي سعت للتركيز على السياحة الزراعية, والاعتماد عليها كركيزة أساسية في الاقتصاد.
متحف البادية المفتوح
وأوضح القحطاني أنه لا يجب أن يقتصر جلُّ تركيزنا على الحاضرة في منطقة عسير, فهناك سكان البادية الذين شكلوا جزءًا مهمًّا بموروثهم الحضاري في المنطقة؛ فهم جزء لا يتجزأ من أبناء هذه المنطقة, وإن اتجه معظمهم في الوقت الحالي إلى الاستقرار في المدن, مفضلين حياة الاستقرار على حياة التنقل والترحال, إلا أن هذا لا يعني تجاهل تراثهم المادي وغير المادي, وحفاظا عليه من الاندثار؛ فإننا نتطلع إلى رصد هذا التراث من خلال إقامة متحف للبادية في الهواء الطلق, كأول متحف متخصص من نوعه, بحيث يبرز تقاليد البادية وأعرافها, ومناسبات البدو المختلفة, والطرق والآليات التي اتبعوها للتكيف مع بيئتهم, وتماشيا مع رؤية المنطقة التي تسعى للحفاظ على الطبيعة والتراث, والاستفادة من أنشطة الأمكنة المفتوحة؛ فإن متحف البادية المفتوح سيجمع بين أصالة التراث البدوي العسيري, والحفاظ على مكنونات البيئة الطبيعية التي ساهمت في فترة من الفترات في تنوع الفئات الاجتماعية بها.
متاحف الرسوم الصخرية
كما بين أنه إلى جانب مقتنيات المتاحف المادية والملموسة, فإنه من المهم ألا نغفل متاحف الرسوم الصخرية في المنطقة, والتي قد تشكل متحفًا مباشرًا وشاهدًا حيًّا ماثلا أماما على الاستقرار البشري منذ عصور ما قبل التدوين, فتأتي هذه المتاحف بمنزلة سجل مصور, يرصد سكان المنطقة من خلاله حياتهم التي غلب عليها صفة الغموض بالنسبة لنا كباحثين, حيث يرنو قسم التاريخ إلى رصد أبرز مواضع انتشار الرسوم والنقوش الصخرية؛ لإجراء الدراسات عليها, ونقل ما يمكن نقله إلى متاحف خاصة بهذا الفن, وإقامة المعارض التي تبرز هذه الفنون الصخرية المباشرة منها والافتراضية, فجبال منطقة عسير تحوي كنزا لا يقل أهميه عما هو موجود في جبة بحائل والشويمس وآبار حمى في نجران, كجبال القهر في تثليث.
وعلى الرغم من ارتباط منطقة عسير في أذهان زوارها بالطبيعة الخلابة والمناخ المعتدل, حتى غدت بمنزلة متحف للتراث الطبيعي, إلا أن ذلك لا يعدُّ عاملَ الجذب الوحيد في المنطقة, بل إن هناك العديد من المقومات التي ارتكزت عليها إستراتيجية تطوير المنطقة, وفي مقدمتها توظيف التراث كعامل جذب, وبما يخدم الإستراتيجية من خلال اختيار أفضل الأماكن لإقامة تلك المتاحف المقترحة, وبما يتناسب مع تخصصها النوعي, ويبرز في الوقت ذاته دور الفرد الذي استقر على أرض منطقة عسير, وتفاعل مع بيئتها في عصورها المختلفة؛ فنتج عنه هذا المخزون المادي الماثل أمام أعيننا.
وقال"من هذا المنطلق, وفي ظل هذه الإستراتيجية المرتبطة بتطوير المنطقة، فإن قسم التاريخ بجامعة الملك خالد يجد أن من أولوياته أن يُسخِّر كل إمكاناته ومنسوبيه لخدمة وإبراز هذا الجانب الأصيل في إستراتيجية منطقة عسير, من خلال تقديمه لتلك المقترحات التي سوف تخدم الإستراتجية, وتتناسب مع رؤية المملكة العربية السعودية (2030)".