استراتيجية منطقة عسير"قمم وشيم"

تاريخ التعديل
3 سنوات 4 أشهر
 أ.د: سعيد بن مشبب القحطاني

 

  "قممٌ وشيم" هو عنوان إستراتيجية التطوير التي أطلقها وتبناها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان-حفظه الله- وهي إستراتيجية تحمل في مفهومها أبعادًا دلالية عميقة، ربطت بين قمم المنطقة الشاهقة والإنسان الذي تمسك بأصالته وثقافته والعمُق الحضاري لمنطقته، وبدا لنا ذلك ظاهرًا في جميع تفاصيل حياته؛ ومن هنا جاءت الإستراتيجية لتربط ما بين تلك الأصالة المتجذرة في ذاته, والتي يؤمن بها إيمانًا عميقًا, ليستثمرها في مستقبلٍ مزدهرٍ تصل به إلى عنان السماء.

رؤية 2030

   والمتأمل في هذه الإستراتيجية يجد أنها جزءٌ لا يتجزأ من رؤية (2030), والتي جعلت من المواطن السعودي وأرض الوطن أحدَ أبرزِ محاورها؛ فسخرت ثقافة سكان المنطقة وإرثهم الحضاري لتحقيق مستقبلٍ واعدٍ ومزدهرٍ بالرخاء والتقدم, وبما يتواكب مع التطورات التي شهدها العالم, فجمعت الرؤيةُ بين المحافظة على الأصالة والعراقة ومواكبة التقنية والتقدم العلمي المتسارع, واستثمارهما بما يحقق عوائد اقتصادية وفرص استثمارية, تجعل من المنطقة وجهةً سياحيةً عالميةً؛ لإطلاع العالم أجمع على ما حوته من طبيعة خلابة وكنوز أثرية، كشفت عن دور المنطقة الفاعل في صناعة التاريخ البشري منذ أقدم العصور حتى الوقت الحالي.

قسم التاريخ بالجامعة

ولا غرْوَ أنَّ جامعة الملك خالد بقياداتها ومنسوبيها تأتي على رأس المؤسسات الأكاديمية المعنية بهذه الإستراتيجية ومن هن فإن قسم التاريخ بكلية العلوم الإنسانية في تلك الجامعة العريقة يستشعرُ مسؤولية الاضطلاع بواجبه حيالها، وخصوصًا أن طبيعة برامجه ومحتواها تجعله في صدارة المعنيين بتراث المنطقة, فقسم التاريخ يقع على عاتقه إبراز الدور الحضاري للمنطقة, وقيمة التراث العسيري, وسبل المحافظة عليه وتطويره والإفادة منه, وذلك بتعاون منسوبيه؛ لإبراز مكانة المنطقة ودورها المتميز كجزء لا يتجزأ من أرض المملكة العربية السعودية, والعمل على تطوير برامجه وإنشاء برامج جديدة, وإيجاد مسارات حديثة بما يتناسب مع هذه الفرص الاستثمارية الضخمة, إذ يتطلع القسم إلى إعداد المؤهلين مهنيًا ومعرفيَّا للمشاركة الفعالة في هذه الإستراتيجية، ويهدف إلى تزويد المنطقة بخريجين متخصصين ومؤهلين في التاريخ والآثار والعمارة والتراث العسيري, متمسكين في الوقت نفسه بأصالتهم معتزين بعراقتهم وقيمهم.

منطقة عسير

 وقد حظيت منطقة عسير منذ مطلعا لقرن الثالث عشر الهجري/ التاسع عشر الميلادي باهتمام الرحالة الأجانب, فزارها كل من الرحالة الفرنسي موريس تاميزيه(Maurice Tamisier),والدبلوماسي البريطاني كيناهانكورنواليس (Kinahan Corn Wallis), والرحالة  البلجيكيفيليب ليبنزPilip  Leibniz)),والرحالة البريطاني هاري جون فيلبي((Harry John Phillby, والرحالة لفرد ثيسجر Wilfred Thesiger )), وقد ساهمت زيارتهم تلك في جمع واستنساخ بعض النقوش, وقراءتها ودراستها في أكثر من موقع بالقرب من وادي تندحة, ووادي القاعة, وقرن القاعة, وبني يعلى, وأم رقيبة, وآبار مريغان, وبئر محش الصغير, وجبال القهر, وجبل سويدية؛ فكشفت للباحثين جوانب الحياة المختلفة لشعوب جنوب الجزيرة العربية في عصور ما قبل الميلاد, والتي لم يتسنَّ للباحثين الوقوف عليها إلا من خلال كتابات هؤلاء المستكشفين, كنقش إبرهة الحبشي الذي استنسخه ريكمانس(Ricmans)رفيق الرحالة فيلبي في تجواله في جنوب غرب المملكة العربية السعودية, ويتطلع القسم إلى أن تتكاتف جهود المختصين لجمع ما تم نشره في مدونات هؤلاء الرحالة من نقوش بالخطين الثمودي والمسند؛ إلى جانب استكشاف بقية المواضع؛ للوقوف على النقوش التي لم يتم الكشف عنها, وجمعها في مدونة تحت مسمى: "نقوش عربية قديمة من منطقة عسير", متضمنةً قراءاتٍ وتعليقاتٍ لتلك النقوش, والتي لا شكَّ أنها سوف تخدم الدراسات التاريخية في المنطقة, وسوف تروج في الوقت نفسه لأهمية المنطقة, وتساعد في استقطاب المكتشفين والباحثين لإجراء الدراسات الحقلية في المنطقة, لتحاكي مدونة النقوش النبطية التي جمَعَ نقوشها وصنفها وعلق عليها الأستاذ الدكتور سليمان الذيب, والتي أصبحت من أهم المصادر في دراسة تاريخ الأنباط والشعوب العربية التي استقرت في شمال غرب المملكة العربية السعودية, ولتنضم إلى موسوعة الآثار والتراث والمعالم السياحية في منطقة عسير, التي أعدها الدكتور مسفر بن سعد الخثعمي, تلك الموسوعة الثرية والغنية بمعلوماتها عن تاريخ وآثار المنطقة, وكتاب "عسير حصن الجنوب الشامخ" الذي تتبع فيه كل من الدكتور عبد الرحمن الأنصاري والأستاذ خالد الأسمري تلك النقوش والآثار.

ولا شكَّ أن عناية قسم التاريخ  بإرث منطقة عسير الحضاري ليست مجرد رصد لتلك الآثار الثابتة والماثلة أمام الجميع, أو حتى جمع لتلك المقتنيات التي يمكن نقلها لمجرد الإعلان عنها والترويج لها إعلاميَّا عن طريق وسائل الإعلام المسموعة منها والمرئية, بل إن قسم التاريخ يقع على عاتقه عبء كبير يتمثل في رصد ذلك الإرث المادي والثقافي الهائل الذي تركه لنا الأقدمون ممن أقاموا واستوطنوا في المنطقة, ومن ثم دراسته وتوظيفه؛ لإبراز أصالته, وعمقه الحضاريِّ, وجذوره الضاربة في القدم.

وقد شهدت منطقة عسير استقرار الإنسان بها منذ عصور ما قبل التدوين على مجاري الأودية الضخمة, والمضايق, وقمم الجبال, ويبدو أنه قد اتخذ من كهوفها ملجأً له من الحيوانات والأخطار الطبيعية؛ ومن الواجب على أصحاب الاختصاص منَّا رصد ملاجئ الإنسان القديم تلك, والسعي إلى توثيقها بالتعاون مع الفرق البحثية وأهالي المنطقة؛ لتخدم الجانب البحثي والوجهة السياحية في المنطقة؛ فلا شك أنها تضم بين جنباتها الكثير من الخبايا والأسرار التي عاشها الإنسان العسيري في تلك الفترة.

ولا نستطيع أن نغفل فترة ازدهار المنطقة تجاريا في ظل ظهور الممالك اليمنية القديمة, وتنافسها الاقتصادي, وما ارتبط بهذا الازدهار التجاري والاقتصادي من مد نفوذها إلى أراضي منطقة عسير؛ فهو حقيقة ثابت تعبرُ عنها النقوش التي دونت بخط المسند, والتي تدل على  أهميتها كممر ومعبر للتجارة الدولية خلال الألف الأول قبل الميلاد, وعليه فإن الأمر يستلزم توثيق درب البخور وفروعه, وارتباطه برحلة قريش الشتوية على وجه الدقة, ومعرفة القرى التي ارتبط ظهورها بنشأته، ومعرفة دور قبائل المنطقة في استمراره, وذلك بتعيين مواقع الأسواق والاستراحات المؤقتة التي كانت تقام عليه, والآبار الأثرية المحفورة على جانبيه, ويحتاج هذا العمل إلى تكاتف جهود العديد من الباحثين المتخصصين والأثريين المحترفين والمهتمين بتاريخ المنطقة, ولا شك أن هذا العمل سوف يكشف لنا عن العديد من المواقع الجديدة التي لم يكشف عنها من قبل, وسوف يخدم تاريخ المنطقة عبر عصوره المختلفة, لتصبح أحد عوامل الجذب سياحي.

جرش

    ومع مبعث الإسلام تسابق أهل المنطقة متمثلين في وفد جُرَش لمبايعة الرسول صلى الله عليه وسلم, وبعد عودتهم من يثرب غدت جرش بمنزلة مركزٍ لنشر الإسلام في المنطقة, ولا يزال موقع جُرش ماثلًا أمامنا حتى اليوم, ونظرًا لأهمية هذا الموقع الأثري؛  فقد حظي باهتمام المسؤولين؛ فتم توقيع اتفاقية تعاون بين قطاع الآثار والمتاحف بالهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني (سابقًا) وجامعة ميامي الأمريكية؛ للقيام بتنقيبات سعودية أمريكية في الموقع ابتداء من عام1429ه/2008م, والتي أُعلن عن نتائج تسع مواسم منها حتى الآن, من خلال حولية "أطلال الحولية العربية السعودية",وكان من أبرز المكتشفات التي عكست لنا العمق الحضاري لهذا الموقع ما يلي

- وحدة معمارية مبنية من الحجارة تمثل حصنًا يعود إلى الفترة السابقة على الإسلام.

- تم الكشف عن منشأتين معماريتين يمثلان مساجد تعود لبداية العصر الإسلامي.

-العثور أثناء التنقيبات في جميع المجسات على أنواع كميات من الفخار الأحمر الخشن, الذي يبدو أنه محلي الصنع, وأواني الحجر الصابوني.

 أوضحت الدراسة الأولية للطبقات والمراحل المعمارية أنه قد تم استيطان الموقع منذ الفترة السابقة للإسلام, واستمر حتى العصر الإسلامي المتأخر.

 تم الكشف عن حجر من الجرانيت اشتمل على زخرفة بالخط الكوفي المورق بأبعاد 46×37سم.

 عثر على نحت بارز يمثل رسمًا لثور في صراع مع الأسد, كتب تحت كل منهما (ثورن نعمن) و(أسد قلعن) للدلالة على اسمهما, فالثور يرمز إلى الصمود, والأسد يمثل القوة, ولعلها إشارة إلى انتصار أهل جُرش على أعدائهم في إحدى المعارك التي سجلوها أو خلدوا ذكراها من خلال هذا النقش.

  هذا عدا الكميات الكبيرة والمتنوعة من بقايا الأدوات الحجرية والفخار الملون, والتي تعود إلى فترات زمنية عدة, والتي كشفت عن التعاقب الحضاري الذي شهده هذا الموقع الأثري.

 وعلى الرغم من جهود البعثة السعودية الأمريكية المشتركة للتنقيب في موقع هذه المدينة التي يعود ظهورها إلى فترة ما قبل الإسلام, إلا أنها لم تكشف لنا بعد عن خبايا وأسرار هذه المدينة القديمة التي استمرت قائمة حتى القرن الخامس الهجري؛ ونظرًا لكثرة المكتشفات في هذا الموقع وتنوعها؛ فإننا نرى ضرورة إنشاء متحف خاص بهذه القرية, وعلى أرضها, على غرار متحف الأخدود بمنطقة نجران؛ لإبراز دورها كمدينة تجارية كانت معاصرةً للعديد من الممالك اليمنية القديمة.

التاريخ الحديث

كما أن التاريخ الحديث للمنطقة يتميز بتنوع المنشآت المعمارية, واختلافها من موضع إلى آخر, وقد ارتبط هذا التنوع باختلاف الغاية من بناء تبك المنشآت, والمكانة الاقتصادية والاجتماعية لها, وتباين المواد الخام المستخدمة في البناء, فهناك الحصون والقلاع والقصبات والأسوار والأبراج التي وثَّقت لناجانبًا من التاريخ السياسي والأوضاع الأمنية المضطربة التي شهدتها المنطقة قبل الحكم السعودي, ولا شك أن تعيين مثل تلك المنشآت يعكس لنا تطور البنايات العسكرية في المنطقة, كما يدفعنا كباحثين لتصور ورسم بعض المعارك الفاصلة على أرض منطقة عسير, بتحديد الموقع الذي دارت على أرضه رحى المعركة, ووضع تصورٍ مرئيٍّ لتوزيع الجنود من المشاة والخيالة والجمالين, والأسلحة المستخدمة من بنادق مستوردة, أو مدافع ومجانيق, ووضع تصور للخطط والتكتيكات العسكرية المرتبطة بطبيعة الأرض؛ فيقدم تصورًا قريبًا إلى ما كانت عليه المعارك في تلك الفترة, وتوثيق ذلك من خلال كتاب مطبوع, أو لوحات افتراضية (تخيلية), إلى جانب عرض مرئي, بحيث يجعل من المنطقة مرفقًا سياحيًّا يحظى باهتمام الزوار طوال أيام العام.

القرية العسيرية

 وأما بالنسبة للقرية العسيرية فإننا لا نحتاج لمجرد عرض مرئي لتلك المباني بما تحتويه من أثاث وتراث متنوع, بل نحتاج إلى تمثيل هذه القرية في واقع حي وبث مباشر, يصور لنا الحياة اليومية كما كانت في الماضي, وذلك بالاستعانة بمن يقوم بتمثيل هذه الأدوار وفق مشهد وحبكة درامية, يجعلنا نعيش أجواء الماضي, ونتفاعل معها من إعداد للأطعمة من خلال استخدام الحطب أو الفحم, إلى جانب ممارسة المهن المختلفة داخل المنازل وخارجها ,كالقيام بصناعة الفخار, والغزل, وحراثة الأرض وزراعتها, واستخدام السواقي, وحصد المحاصيل وتذريتها وتخزينها, وطحن الحبوب, وإقامة المراسيم المختلفة من أفراح, وما يتصل بها من أهازيج, والمآتم وما يرتبط بها من تقاليد جنائزية متنوعة, ولن نغفل هنا بيت الراوي, أو من يقوم بالرواية الشفهية ونقل الأخبار الماضية والأساطير في ليالي سمر ممتعة, تعكس لنا البيئة العسيرية والموروثَ الحضاريَّ؛ فيكون في هذا توثيقٌللتراث الشفهي وغير المتداول, أو المعروف في الوقت الحالي .  

مركز بحثي متخصص

   ولكون العلم جزءًا لا يتجزأ من تاريخ هذه المنطقة, ونظرا لوجود بعض الأسر العلمية التي قامت بدور مميز في نشر العلم لفترات طويلة؛ فنتطلع إلى إقامة مركز بحثي متخصص في آثار وتاريخ المنطقة, يخلد ذكر الإعلام من أفراد هذه الأسر, ويبرز جهودهم في نشر العلم والـتأليف, كما يفضل أن يتولى هذا المركز الإشراف على جمع التراث العلمي المخطوط, والوثائق الخاصة المحفوظة لدى عددٍ من أبناء هذه الأسر ومشايخ القبائل, مما لا يظهر للعلن, ولا شك أن منسوبي قسم التاريخ أشد حرصا على الحفاظ على هذا التراث العلمي, ولا يدخرون وسعا أو جهدًا لتحقيق مثل هذه المخطوطات, نشرها, وإتاحة الإطلاع عليها.

   وما تم استعراضه سابقًا لم يكن إلا إشارة يسيرة تبرز الأهمية التاريخية والحضارية للمنطقة, وتوضح ضخامة المسؤولية التي تقع على عاتق قسم التاريخ لتطوير برامجه, وتأهيل خريجيه, وإتاحة الفرصة أمامهم للعمل في المجالات الوظيفية المرتبطة بتلك الإستراتيجية, إلى جانب حث منسوبيه على تقديم المقترحات البحثية التي من شأنها أن تساهم في عجلة التطوير والتنمية في المنطقة.

 

 

 

                   رئيس قسم التاريخ

أستاذ التاريخ السياسي الحديث والمعاصر بالجامعة

 أ.د: سعيد بن مشبب القحطاني