النظرية السيبرانية ..توظيف الفضاء الإلكتروني في تعظيم قوة الدول
عبدالله زارب
مع تحول الفضاء الإلكتروني إلي ساحة للتفاعلات الدولية، برز العديد من الأنماط التوظيفية له، سواء على صعيد الاستخدامات ذات الطبيعة المدنية أو العسكرية، الأمر الذي جعل هذا الفضاء مجالا للصراعات المختلفة، سواء للفاعلين من الدول أو غير الدول لحيازة أكبر قدر من النفوذ والتأثير السيبراني.
في هذا السياق، تبلورت ظاهرة «الحروب السيبرانية» Cyber Wars، التي اتسمت بخصائص مختلفة عن نظيراتها التقليدية، من حيث طبيعة الأنشطة العدائية، والفواعل، والتأثيرات في بنية الأمن العالمي. وعبرت تلك الحرب عن نمطين من القوة (الناعمة والصلبة) في عملية توظيف التفاعلات في الفضاء الإلكتروني، مما يعكس تنامي القدرات والتهديدات المتصاعدة لأمن البنية التحتية الكونية للمعلومات.
ويتعلق مضمون الحرب الإلكترونية بالتطبيقات العسكرية للفضاء السيبراني، حيث تعني -في أحد تعريفاتها- قيام دولة أو فواعل من غير الدول بشن هجوم إلكتروني في إطار متبادل، أو من قبل طرف واحد. وبرغم ذيوع مسمي “الحرب الإلكترونية” إعلاميا، فإنه يعد مصطلحا قديما كان بالأساس مقصورا على رصد حالات التشويش على أنظمة الاتصال، والرادار، وأجهزة الإنذار، بينما يكشف الواقع الراهن في الفضاء الإلكتروني دخول شبكات الاتصال والمعلومات إلى بنية ومجال الاستخدامات الحربية.
ووفقا للمفهوم التقليدي للحرب، فإنها تنطوي على استخدام الجيوش النظامية، ويسبقها إعلان واضح لحالة الحرب، وميدان قتال محدد، بينما تبدو هجمات الفضاء الإلكتروني غير محددة المجال، وغامضة الأهداف، لكونها تتحرك عبر شبكات المعلومات والاتصالات المتعدية للحدود الدولية، إضافة إلى اعتمادها على أسلحة إلكترونية جديدة تلائم طبيعة السياق التكنولوجي لعصر المعلومات، إذ يتم توجيهها ضد المنشآت الحيوية، أو دسها عن طريق عملاء لأجهزة الاستخبارات.
وبدا أن الأعمال العدائية في الفضاء الإلكتروني، إن لم يتم وصفها بالحرب، يتم إطلاق مسمي الإرهاب عليها. ولا يحمل هذا الأمر تقييما أخلاقيا لها بقدر ما هو تعبير عن طبيعة الهجمات الإلكترونية الفنية، وطرق حدوثها. فتلك الهجمات تعتمد على الترويع، وبث الخوف، ومجهولية المصدر، أو حتى الحجم الفعلي للخسائر، أو الكيفية التي تمت بها.
الحرب غير المتكافئة
أيضا، تدخل تلك الأعمال العدائية في إطار «الحرب غير المتكافئة»، لكون الطرف الذي يتمتع بقوة هجومية، ويبادر باستخدامها هو الأقوى، بغض النظر عن حجم قدراته العسكرية التقليدية، الأمر الذي يؤثر في نظريات الردع الاستراتيجي، بخلاف أن عدم القدرة على التمييز بين استهداف المنشآت المدنية أو العسكرية في هجمات الحرب الإلكترونية يصعب من فرض حماية دولية.
ويتوقف استخدام مصطلحات، كـ «الحرب» أو «الإرهاب»، لوصف الأعمال العدائية الإلكترونية على طبيعة الاستخدام السياسي، ومدي توظيفها دعائيا بين الدول.
فعلى سبيل المثال، وصفت إيران هجوم فيروس «ستاكسنت»، الذي تعرضت له في عام 2010، بأنه عمل إرهابي، بينما عدّت الولايات المتحدة الهجوم الإلكتروني على شركة «سوني بيكتشرز» في عام 2014 إرهابا إلكترونيا تمارسه كوريا الشمالية.
دواعي امكانية بروز حروب سيبرانية
1) تزايد ارتباط العالم بالفضاء الإلكتروني، الأمر الذي اتسع معه خطر تعرض البنية التحتية الكونية للمعلومات لهجمات إلكترونية، فضلا عن استخدامه من قبل الفاعلين من غير الدول، وبخاصة الجماعات الإرهابية لتحقيق أهدافها التي تنال من الأمن القومي للدول.
2) تراجع دور الدولة في ظل العولمة وانسحابها من بعض القطاعات الاستراتيجية لمصلحة القطاع الخاص.
في الوقت عينه، تصاعدت أدوار الشركات متعددة الجنسيات، وبخاصة العاملة في مجال التكنولوجيا، بصفتها فاعلا مؤثرا في الفضاء الإلكتروني، لاسيما مع امتلاكها قدرات تقنية تفوق الحكومات.
3) نشوء نمط جديد من الضرر على خلفية الهجمات الإلكترونية يمكن أن تسببه دولة لأخرى، دون الحاجة للدخول المادي إلى أراضيها، وذلك بعد أن تزايد اعتماد الدول على الأنظمة الإلكترونية في جميع منشآتها الحيوية جعل هذه الأخيرة عرضة للهجوم المزدوج، لما لها من سمات مدنية وعسكرية متداخلة، وبخاصة أن الثورة التكنولوجية الحديثة تمخضت عنها ثورة أخرى في المجالات العسكرية، وتطور تقنيات الحرب.
3- قلة تكلفة الحروب السيبرانية، مقارنة بنظيراتها التقليدية، فقد يتم شن هجوم إلكتروني بما يعادل تكلفة دبابة، من خلال أسلحة إلكترونية جديدة، ومهارات بشرية، علاوة على أن هذا الهجوم قد يتم في أي وقت، سواء أكان وقت سلم، أم حرب، أم أزمة، ولا يتطلب تنفيذه سوي وقت محدود.
4) تحول الحروب السيبرانية إلى إحدى أدوات التأثير في المعلومات المستخدمة في مستويات ومراحل الصراع المختلفة، سواء على الصعيد الاستراتيجي، أو التكتيكي العملياتي بهدف التأثير بشكل سلبي في هذه المعلومات، ونظم عملها.
5) توظيف الفضاء الإلكتروني في تعظيم قوة الدول، من خلال إيجاد ميزة أو تفوق أو تأثير في البيئات المختلفة، وبالتالي ظهر ما يسمي «الاستراتيجية السيبرانية» للدول، والتي تشير إلى القدرة على التنمية، وتوظيف القدرات للتشغيل في الفضاء الإلكتروني، وذلك بالاندماج والتنسيق مع المجالات العملياتية الأخرى لتحقيق أو دعم إنجاز الأهداف، عبر عناصر القوة القومية.
6) أدي تصاعد المخاطر والتهديدات في الفضاء الإلكتروني إلى بروز تنافس بين الشركات العاملة في مجال الأمن الإلكتروني بغرض تعزيز أسواق الإنفاق العالمي على تأمين البني التحتية السيبرانية للدول، بالإضافة إلى بروز فاعلين آخرين من شبكات الجريمة المنظمة والقراصنة، وغيرهم.
7) اتساع نطاق مخاطر الأنشطة العدائية التي يمارسها الفاعلون، سواء من الدول أو من غير الدول في الحرب السيبرانية. فقد تشن الدول الهجمات الإلكترونية عبر أجهزتها الأمنية والدفاعية، كما قد تلجأ إلى تجنيد قراصنة، أو موالين لشن هجمات ضد الخصوم، دون أي ارتباط رسمي.
وبرغم عدم تطوير الجماعات الإرهابية، كفاعل من غير الدول، لقدراتها في الحرب السيبرانية، مقارنة بممارسة القوة الناعمة على الفضاء الإلكتروني لنشر الأفكار المتطرفة، فإن هناك مؤشرات على احتمال تطوير تلك الجماعات لقدراتها الهجومية مستقبلا.
أهمية الأسلحة الالكترونية عسكريا
لكن تبقي مشكلة دخول العالم سباق التسلح السيبراني Cyber Arms Race في تحديد ماهية تلك الأسلحة التي يمتلكها الآخرون، حيث لا يملك المجتمع الدولي قدرة سريعة على التدخل لاحتوائها، ولا يوجد مجال لتفعيل التفتيش كآلية مراقبة، مثل حالة الأسلحة النووية.
وإن كانت عملية بناء القدرات العسكرية في مجال الأسلحة الإلكترونية تنطوي على عناصر أساسية، منها: أولا، السعي إلى امتلاك التكنولوجيا، وأنظمة الحماية، وتطوير قدرات هجومية تعمل على تحقيق التفوق التقني، وثانيا تطوير القدرات الهجومية، إما عبر بناء القدرات الذاتية، أو بالاستعانة بالأفراد والشركات المتخصصة، وتطوير القدرة على اختبار مدى الجاهزية لمواجهة الهجمات الإلكترونية، وثالثا وأخيرا، العمل على توفير الميزانيات المخصصة لتطوير القدرات الهجومية والدفاعية، وبخاصة مع قلة تكلفتها، مقارنة بحجم ما ينفق على الجيوش التقليدية.
وتتمثل متطلبات توافر الأمن الإلكتروني الدولي في التأكد من سلامة الدفاعات الإلكترونية، وعدم تعرضها لأي خلل فني طارئ، وألا تعالج هذه المسألة منفصلة عن غيرها، وإنما ضمن ترسانة شاملة للدفاع تشكل إطارا رادعا لأي حرب استباقية.