المسدي: طغيان العاميات على الإعلام ينذر بموت اللغة العربية

تاريخ التعديل
7 سنوات 5 أشهر
Afaq logo

قراءة: زكريا حسين

 

دق أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية، الدبلوماسي التونسي، الدكتور عبد السلام المسدي، ناقوس الخطر  حين قال  إن اللغة العربية تمر بـ «وضع حرج جدا»، مشيرا إلى حملة واسعة تصاحب حملة الكونية الثقافية تتقصّد النيل من كل الثقافات الإنسانية ذات الجذور الحضارية  المتأصلة، وفي مقدمتها الثقافة العربية، موضحا أن الحملات العدائية تتمسك دائما بالعامل اللغوي، مؤكدا أن المشهد الإعلامي في الوطن العربي، يوحي بأن كل القرائن تدل على أن اللغة العربية ستخسر معركتها بشكل كارثي.

جاء ذلك في كتاب بعنوان «العرب والانتحار اللغوي»،  من تأليف المسدي،  سلط الضوء على الحروب اللغوية، وعوامل انقراض اللغات، وورد فيه «كثيرا ما تتعلل الحملات العدائية بأن العربية الفصحى لغة مفارقة للواقع الحي المعيش، فتحاول أن تبثّ الوهم بأن لغة الواقع هي التي يجب أن تصبح اللغة الرسمية، وهذا معناه تحويلها إلى لغة تربوية، ثم إلى لغة إبداعية حتى يكتب بها الفكر؛ ومن هنا تتسلل المعاول الناسفة»، لافتا إلى أن الهدف البعيد من وراء ذلك، أن تلقى العربية نفس المصير الذي صادفته اللغة اللاتينية بأن تنحل إلى لهجات تتطور إلى لغات قائمة الذات.

واستدرك المسدي قائلا «مثل هذه الدعوى لا تجد لها رواجا في أقطارنا العربية بشكل رسمي، ولكن السلوك الموضوعي كثيرا ما يمهد لها السبيل، ولاسيما إذا ما انتبهنا إلى طغيان العاميات على أجهزة الإعلام المرئي والمسموع؛ فنصيب العربية الفصحى ما انفكّ يتقلص، ونزعة الاستسهال بحكم قانون المجهود الأدنى ما فتئت تزرع الوهم بأن العربية لا تتلاءم مع برامج الحياة اليومية».

وشدد المسدي على أنه لا مجال أمام العرب اليوم للانخراط بكفاءة واقتدار في المنظومة الإنسانية بكل أبعادها إلا بجبهة ثقافية عتيدة، مبديا أسفه من أن يدخل العرب عصر العولمة ذا الصراعات الحاسمة والقوى المتكالبة، عزلا من الأسلحة المادية والمعنوية، وأهمها سلاح الثقافة الذي يستمد قوته وتأثيره من اللغة الفصحى الموحدة، وهي خط الدفاع الأول عن الهوية.

وقال «لا ثقافة بدون هوية حضارية، ولا هوية بدون إنتاج فكري، ولا فكر بدون مؤسسات علمية متينة، ولا علم بدون حرية معرفية، ولا معرفة ولا تواصل ولا تأثير بدون لغة قومية تضرب جذورها في التاريخ، وتشارف بشموخ حاجة العصر وضرورات المستقبل».

 

محور جوهري

قال المسدي إن اللغة محور جوهري في الصراعات السياسية الكبرى عبر كل الحقب، مستشهدا بمقولة شارل ديغول «لقد صنعت لنا اللغة الفرنسية ما لم تصنعه الجيوش».

ويذهب المؤلف إلى أن «الصراع اللغوي واقع في قلب الحدث من العلاقات الدولية؛ فهو أحيانا صراع مباشر بين القمم كما هو جار بين الفرنسية والإنجليزية، وأحيانا أخرى صراع غير مباشر عن طريق النزاعات الإقليمية، تماما كما يقع في الصراع العسكري.

ولقد بات بديهيا أن الساحة الدولية ملأى بهذه النزاعات اللغوية التي تترجم عن صراع سياسي، أو ملأى بنزاعات سياسية تتصل بصراعات ثقافية لغوية؛ فكثير من المتابعين المحللين يرون أنه من المفيد أن نقرأ بعض صراعات إفريقيا الوسطى بعدسات التصادم اللغوي«.

 

اللهجات العامية

المتأمل في كتاب «العرب والانتحار اللغوي «يتوصل إلى حقيقة مفادها أن تفشي اللهجات العامية أكثر خطرا من تأثير اللغات الأجنبية في لغة الضاد.

وفي هذا الصدد يقول المسدي «اللغات الأجنبية لم تعد هي العدو الأول للغة العربية، وإنما الذي حل محله في هذا العداء الشرس النافذ، والذي في مستطاعه أن يجهز على العربية فيذهب بريحها، هو اللهجات العامية حين تكتسح  المجال الحيوي للفصحى؛ إننا ما فتئنا نفسح الأبواب للعاميات كي تغزو الحقول التي تحيا بفضلها العربية».

ويتذمر المسدي من انتشار العاميات وطغيانها على مختلف الحقول الفكرية والثقافية فيقول «غزت العاميات منابرنا الإعلامية السمعية والبصرية وسكتنا، غزت العاميات حواراتنا الثقافية وسكتنا، غزت العاميات مجالسنا الفكرية، ثم تسللت إلى فصول التدريس ومدارج الجامعات، وها نحن نصمت متبرمين أو منخذلين».

ويتساءل مرة أخرى قائلا «كيف نتحدث عن الموارد البشرية وتنميتها، أو عن التخطيط المستقبلي الشامل، ونحن نعيش انفصاما بين أدوات المنظومة التربوية وشروط النهضة الحضارية؟ كيف نرقى إلى آليات الاستثمار في حقل التواصل؟ وكيف نمسك بأساسيات اقتصاد المعرفة ومجتمعنا العربي هو  المجتمع الوحيد، بين سائر مجتمعات المعمورة، الذي يتخرج فيه التلميذ من التعليم الثانوي وهو عاجز عن تحرير عشر صفحات تحريرا سليما: لا بلغته القومية ولا بلغة أجنبية؟».

وتابع «لقد آن الأوان، ويكاد يفوت، أن نكفّ عن اعتبار اللغة مجرد وعاء للفكر، وهو ما دأب عليه الميراث الفكري الإنساني قاطبة، ليست اللغة إناء نصب فيه التصورات الذهنية، والانفعالات الشعورية، والأحاسيس الغريزية، والاستلهامات الروحية. إن الفصل بين الظرف والمظروف، بين الوعاء وما فيه، بين الصورة والمضمون، هو  الآن حماقة كبرى عاشت عليها الثقافات الإنسانية».

 

خلع الأبواب المفتوحة

قال المسدي إن محاربة الآخر للغة العربية أصبحت أمرا بديهيا، وإثباتها كأنه ضرب من تحصيل الحاصل أو، كما يقول المثل، ضرب من خلع الأبواب المفتوحة، بل أمسى عند أهل الروية والمتابعة من المعلوم بالضرورة، والجدل فيه استنزاف للجهد وهدر للتفكير، فالحملة التي تقودها الولايات المتحدة ثقافية أولا، لغوية تاليا، والتي تقودها فرنسا، تحت عباءة الاتحاد الأوروبي، لغوية بدءا، ثقافية بالاستتباع الحتمي.

وانتقد المسدي جهود  مؤسسة العمل العربي المشترك، مشيرا إلى أنه لم يخطر لها أن تجعل المسألة اللغوية ضمن أولوياتها المصيرية منذ البدايات.

وأردف «قد استيقظت بعد خمسة عقود ونصف عقد من انبعاثها فأولت اللغة التفاتة على استحياء يشي بالإعياء الحضاري، وكأن الموضوع مرهم يفيض خارج إناء المصير الكبير، ففي قمة الرياض (2007) تم الإعلان عن إدراج موضوع اللغة العربية ضمن أمهات القضايا التي تخص العمل العربي المشترك، وفي قمة دمشق (2008) تمت المصادقة على مشروع النهوض باللغة العربية للتوجه نحو مجتمع المعرفة، وفي قمة الدوحة(2009) تمت المصادقة على آليات تنفيذ المشروع وتكليف المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بإنجازه».

ويرى المسدي أن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ليس لها اختصاص باللغة لا على وجه التعيين  ولا حتى على وجه الإضمار، ولو كان لها ذاك الاختصاص لسميت «المنظمة العربية للتربية والثقافة واللغة والعلوم«، ومجموع كل تلك الحقول هو ما يمثل، في مفاهيم المعرفة المعاصرة، رأس المال الرمزي لشعب من  الشعوب  أو لأمة من الأمم أو لثقافة من الثقافات».

وبلغة جريئة سطر قائلا «إن المنظمة لا مبرر لوجودها إلا إذا كانت مؤسسة إجرائية، غير أنها منذ تأسست لم يكن بوسعها أن تنهض بأعباء مسؤوليتها التاريخية في صياغة واقع عربي جديد ولو بقرار واحد ملزم، ولكن العرب أجمعوا في صمت على أن تكون المنظمة «مؤسسة نصوص» لا «مؤسسة إجراءات». إنها جزء من حاشية تاريخنا العربي وليست فقرة من فقرات  متنه».

 

تلويث اللغة

وعن تأثير الإعلام الجديد في اللغة، أشار المسدي إلى أن من أشد اللوحات تلويثا للغة واستهانة بقيمها الثقافية والحضارية في هذا الزمن العربي ما انساق إليه الجميع في موضوع الهواتف المحمولة وطرائق إدارة خدماتها.

وقال «لقد بدأتها المؤسسات المعنية بالاتصالات في نطاق القطاع العام بإشراف الوزارات الحكومية، وكانت جميعا في بداية العهد بالهواتف المحمولة في العقد الأخير من القرن الذي مضى، تستعمل اللغة العربية الفصحى إلى جانب اللغة الأجنبية الإنجليزية  أو الفرنسية، ولما فتح المجال أمام القطاع الخاص، سواء عن طريق الخصخصة أو عن طريق التعدد التنافسي، بادرت الشركات، وهي في معظمها متعددة الجنسيات، إلى استعمال اللهجات العامية بالبلد الذي تمارس فيه نشاطها، وبدأت تعرض خدماتها وإرشاداتها بما تخال أنه يعينها على الترويج الأمتن والتسويق الأوسع، ولم نسمع أن دولة عربية واحدة  فاوضت شركة من تلك الشركات الاستثمارية على موضوع اللغة التي سيتم استخدامها أثناء تقديم الخدمات، وكأن الأمر قدر محتوم مفروض؛ وهكذا انفتح الطريق فسيحا لتركيز قواعد جديدة في السلوك اللغوي».

ولفت المسدي إلى أن للإعلان التجاري أيضا تأثيرا بالغا في نشر  اللهجات العامية، مبديا استغرابه إقحام اللغة في دوامة العرض والطلب، وأضاف «انحشرت اللغة ضمن مقاسات الجدوى الاقتصادية والمعايير الإنتاجية، وانتهى الأمر إلى تسليعها، أما الحاضنة الكبرى لهذا التخليق الجديد لكينونة اللغة المستخدمة في الأنابيب فهي وسائط الإعلام؛ بدأت الظاهرة سمعية في مرحلة البث الإذاعي أيام مجده الانفرادي، ثم انتهت إلى بسط سلطانها على أدوات البث المرئي المسموع، ولم يعد أحد يشك في القدرة التأثيرية الجبارة التي اكتسبها البث الفضائي منذ يسرته الأقمار الاصطناعية».

وذهب المسدي إلى القول بأن المشهد الإعلامي في الوطن العربي، يوحي بأن كل القرائن تدل على أن اللغة العربية ستخسر معركتها بشكل كارثي، مشيرا إلى أن «حرب الفصحى  جندت لها فضائيات، وجهزت جيوش من الجهلة والحاقدين الذين وصلوا إلى درجة من التأثير  في القرار  حتى أقصوا الفصحى عن الصدارة في وسائل الإعلام، ولم يضيعوا الوقت في التنظير  لقضيتهم، بل بادروا إلى خطوات عملية تجعل الأمر واقعا، فحصروا اللغة المشتركة في ركن ضيق، وأخلوها من البريق، وشوهوا صورتها وصورة من يستعملها أو يعلمها أو يدافع عنها، ورفعوا بجانبها راية العامية، وأحاطوها بكل مظاهر  الإبهار التي ترفع من شأنها في أذهان العامة، وجعلوها متفوقة في كثير من المناسبات على الفصحى، بعد أن كانت في السابق لا تدانيها في المكانة عند أنفسهم».

 

فصول الكتاب

يذكر أن كتاب «العرب والانتحار اللغوي «الصادر عن دار الكتاب الجديد المتحدة، تضمن 11 فصلا كالتالي:

• الحقيقة الغائبة.

• المأزق التاريخي.

• اللغة والسياسة، اللغة والهوية.

• محاربة اللغة العربية.

• العربية وبقايا الفرنكوفونية.

• اللغة والعمل العربي المشترك، التلوث اللغوي.

• تسليع اللغة وحصار الإعلام.

• اللغة والديمقراطية.

• أوهام التأويل.