الأخلاق والبناء الوظيفي

أستاذ مشارك بقسم الإعلام والاتصال
تاريخ التعديل
5 أشهر أسبوع واحد

وأنا أقرأ رواية "يوتوبيا" للكاتب الانجليزي "توماس مور" أثار انتباهي النقد الوظيفي للقيم والأخلاق الذي استخدمه في تحليل مسار الثقافات والحضارات ، والتي ناقشها الفيلسوف اليوناني الكبير أفلاطون في كتابه الشهير "الجمهورية" وبين خصائصها وتطوراتها المفكر الأمريكي "صمويل هتنغتون" في كتابه "صدام الحضارات".

إن الذي أعجبني في هذه الرواية هو أنها تعرضت إلى الدور الجوهري للبناء الوظيفي للقيم بمختلف أنواعها في عمليات التغيير النهضوي للأمم والشعوب ولتنامي الفعل الحضاري في مختلف الأوساط الاجتماعية, بحيث تشير الرواية إلى أن الأداء الأخلاقي لمختلف  مؤسسات المجتمع يساعد بصفة بارزة على بناء الأسس المتينة للتغيير الاجتماعي والثقافي الفعال الذي أصبحنا نفتقده في المجتمعات الحديثة الراهنة في ظل التحولات الكبيرة التي تشهدها المنظومة القيمية الحضارية في العصر الحديث.

إن الأخلاق في حقيقتها فكرة موضوعية يمكن قياسها والبناء عليها مثلما يؤكده المفكر الألماني "هربرت ماركوزه" في كتابه الشهير " الأخلاقيات الدنيا: انعكاسات الحياة المتضررة " الصادر عام 1951م والذي بيَّن فيه أن الأخلاق تشكل الأداة الوظيفية للنقد الذي من خلاله تتطور الممارسات الإنسانية في مختلف المجالات الحياتية بالمجتمع, وعلى أساسها تشكل التيار النقدي الألماني الذي سمي "بمدرسة فرانكفورت "التي حولت نمط التفكير الأوروبي بعد الحرب العالمية الثانية من النمط البرغماتي الانتقالي إلى الأخلاقي النقدي والذي تماهى مع التيار الفكري الوظيفي الذي ظهر في الولايات المتحدة الأمريكية من خلال أفكار المفكرين البارزين "تالكوت بارسونس" و"روبرت مرتون" لتولد في إطارهما المفاهيم الجديدة للتطور والتنمية , ويرى المؤرخون أن سقوط الحضارات والأمم يحدث غالبا  من جرَّاء انهيار منظومتي القيم والنقد الأخلاقي, وهذا ما يؤكده المؤرخ البريطاني "أرنولد توينبي" عندما قال :"إن الأمم لا تعتل بل تنتحر وتسقط حينما لا تتقبل النقد والأخلاق فتدخل في متاهات صراع قيمي دائم يكبلها ويعجزها عن ابتكار حلول لمشاكلها وأزماتها" .

فالتغيير الايجابي في المجتمع مرده أساسا الى التأثير الذي تحدثه الأخلاق في بعدها النقدي على منظومة التفكير لدى أفراد المجتمع وعلى الأداء الوظيفي للمؤسسات فيه ، وهذا ما يؤكده المفكر الألماني  الكبير "فريدريش هيجل" في كتابه  الذي يحمل عنوان "ظاهريات الروح" بحيث أشار فيه إلى أن الوعي الحضاري في المجتمع لا يتم إلا من خلال التغيير عبر المنطلقات النقدية والأخلاقية التي تدفع بعجلة التطور في أبعادها التنموية والتطورية الى الأمام.

وللتعامل بشكل فعال مع حتمية التغيير الذي تفرضه الصيرورة التاريخية والحضارية على مجتمعات العصر الراهن  فمن الضروري على الناس أن تجعل النقد والأخلاق هما المقياس القيمي لمختلف الممارسات بها في شتى أبعادها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية وغيرها...حتى تستطيع أن تصل الى تحقيق "يوتوبيا" الإنسان والحضارة التي تمثل البعد الوظيفي للتغيير والتطور.