إنتماء
كانت أنفاسَها تسبق خطواتها العجُولة، وعيناها ترُاقب كوب القهوة الساخن الذي خطفته من المكتب بيدها اليُسرى المثقلة بحقيبتها وملفاتها وأظرف أوراق الامتحان، وبكل حذر واتزان أدخلت يدها اليمنى في جيب حقيبتها الخلفي لتأخذ مفتاح باب المعمل الالكتروني الذي سيحتضن اختبار طالباتها بعد دقائق.
فتح الباب وبدأت الطالبات بالتوافد لأخذ المقاعد وفتح أجهزة الحاسب؛ بدأ الامتحان بعد الاستماع إلى نبذة توضيحية منها واطمأنت أن كل شيء على مايرام.
ارتسمت بسمة إعجاب على محياها وهي تجوب بناظريها في زوايا المعمل الذي تم تجديده وتهيئته بأحدث وسائل التقنية مؤخرا، وأذهلها جمال تصميم الديكور المتناسق الألوان ولمسات الابداع التي «تفتح النفس» في كل زاوية.
مرّ الوقت واقتربت عقارب الساعة من العاشرة وبدأت الطالبات بحفظ الإجابات ومراجعتها لتسليم الاختبار الكترونيا. طلبت من الطالبات الانتظار لبضع دقائق قبل الخروج وبتنهيدة عميقة شرعَتْ: «طالباتي العزيزات.. أربع سنوات تقضينها في رحاب هذه الجامعة تنهلن من العلوم لتبنين ذواتكن وتحققكن أحلامكن وترتقين شامخات في آفاق مستقبلكن، وبين ربوعها تزخرن بنعم لا تحُصى لا يعي قدرها الا من فقدها.
هذه الجامعة يا عزيزاتي جزء من وطننا: هذه الأرض الطاهرة التي ترعرعنا في حضنها، وتربينا في كنفها العطِر، كبرنا تحت سمائها وتنفسنا عليل هوائها وتشربت في دواخلنا أفضالها وخيراتها اللامحدودة.
قبل أيام احتفلنا بيومنا الوطني ولم نتوانى قطّ في إظهار محبتنا لوطننا في كل ميدان. لكنّ حب الوطن الحقيقي هو الانتماء. أن أشعر في كل خطوة اخطوها على تراب هذه الأرض انني مسؤولة عن كل ما يغمرني من أفضالها.
هذا الانتماء لا يتطلب صخبا وخطبا، وانما يحتاج قلبا ينبض بالإخلاص ويدا أمينة تصون ممتلكات الوطن وبأبسط الأمور: تميطين أذى في ممرّ، ترفعين مخلفات طعام في مطعم، ترفعين أوراقا وكتبا ملقاة، تطفئين أضواء قاعات خالية، تعيدين كرسيا لمكانه، تسقين زرعا في الفناء، تنحنين احتراما لأستاذة، تبادرين بمساعدة طالبة وتبتسمين في وجه عاملة وتحاولين بقدر الإمكان أن لا تتركي خلفك ما يعكس عدم انتمائك لجامعتك ووطنك.
وأهم من ذلك أن تستشعري النعمة وتحمدي الله عليها وتعزمي بإيمان وتفان على أن تهدي هذه الجامعة وهذا الوطن اجتهادك ونجاحك وتميزّك؛ مثل تلكم اللمسات ببساطتها عند الله عظيمة. وهي تعكس درجة الوعي ومستوى الرُّقي وصدق الانتماء وتجعل منك فخرا وذُخرا لجامعتك ووطنك وأمتك.
غدا يا طالبتي ستنتهي رحلة العلم وسترحلين ويبقى صدى أثرك حيا في أروقة جامعتك. فلا تنتظري أن يسبقك أحد لتحذي حذوه بل كوني أنتي نقطة الانطلاق لمبادرات العرفان ورد الجميل».
كانت لكلماتها وقعٌ انعكس في أعين طالباتها اللاتي لمعت بمعاني العزم والمحبة والانتماء.
حملت أوراقها بعد أن سُرّ خاطرها حين رأت كيف تركت طالباتها المعمل أنظف وألطف مما كان.
أطفأت أضواء المعمل ونوافذه وقبل أن تخرج خطّت بيديها على لوحة السبورة همسة قلبية وطنية: «وطنٌ لا نحافظ على ممتلكاته، لا نستحق العيش في جنباته!».