البكاء عند العشاق
إن في الوجدان بقايا قلب محروق، يبكي في محراب الآهات التائهة في حب عذري لا متناه، الحبيبة هي الروح، والروح هي الملكوت الضائع الذي أبكي من أجله، وأموت علّ الله يجمعني به في الحياة الأخرى، هكذا يعيش العاشق العذري دامع العينين، نادبا حظه الذي ألقى به في متاهات المستحيل، ولسان حاله يقول:
روحي الثكلى بفراقك
تسأل قلبي الباكي
تقول الموعد القادم متى يأتي؟
وألقاك
هذه صورة حقيقية لذلك الواقع المؤلم الذي عاشه ويعيشه العشاق العذريون، الذين حكموا على أنفسهم بالموت الفعلي؛ نتيجة لإخلاصهم لمن يحبون. فهو يرى بمحبوبه مثله الأعلى الذي يحقق له متعة الروح، ورضا النفس، واستقرار العاطفة، الذي يجعل فتنته بواحدة تقف عندها آماله، وتتحقق فيها كل أمانيه، فهي الهدف الذي يطلبه، والغاية التي يسعى إليها، والأمل الذي يرتجيه، ويقضي عمره في محراب حبه، مثله مثل الفراشة التي تتهافت على النور، ولا تزال تحوم حوله، فالمحبوبة هي الكأس الذي يقضي عمره ظامئا إليها لا يعدوها إلى غيرها، ولا يتجاوزها إلى سواها.
فها هي دموع قيس وشلالات جميل وعروة وكثير، وكانت النتيجة أن تشكل من هذه الدموع مصب واحد، صراع دائب متصل لا يهدأ ولا يستقر، أسقام وأوجاع وعلل تصطلح على العاشق، فينوء تحت وطأتها جسده الذي أهزله الضنى، وأضناه الهزال، وتنهار معها أعصابه التي أرهقها الصراع النفسي وأجهدها التفكير، ثم تكون النهاية المحتومة التي لا مفر منها وهي الموت، ليغمض عينيه إلى الأبد على خيال من يحب.
فالحب ما هو إلا أول نخب من قدح التقديس الأزلي، يقضي العاشق ما تبقى من عمره تحت تأثيرها حزينا باكيا تائها، ويخر صريعا من شدة مفعولها ينادي من يحب بأعلى صوته ولا يسمع غير الصدى.
في قلوبنا ما لا يحكى، في صمتنا ما لا ينطق، فلو أننا نملك القدرة على نطق كل الكلام الذي يملأ قلوبنا في غيابهم لما تألمنا، نحن نمتلئ بالأحاديث، ونكتفي ببضع كلمات معهم وهذا مؤلم جدا، وتحت المطر أنسب مكان لتبكي ولا يشعر بذلك أحد.