(ب: بِرّ)

تاريخ التعديل
5 سنوات 8 أشهر

«Roll Number Fifteen».. نداءٌ انعكس صداه في زوايا القاعة لتقوم الطالبة حاملة الرقم التسلسلي خمسة عشر بخطوات متأنية ولسان يلهج بدعوات التيسير نحو الكرسي المّعد أمامي لامتحان مادة التحدث باللغة الإنجليزية.
الطالبات في مجموعات وكل مجموعة تمارس محادثات تدريبية وتتناقش بأصوات خافتة تتخللّها تنهيدات توتر وفرقعة أصابع.
جلست الطالبة أمامي واختارت مجموعة من بطاقات الأسئلة. كانت إحدى طالباتي المتميزات وبدت واثقة بما حباها الله من طلاقة لغوية. سُرّ خاطري كثيرا ودعوت في داخلي لها بمزيد من التألق والرقي.
بدأتُ بسرد الأسئلة حتى وصلنا إلى سؤال البطاقة الثالثة: الوالدين. صمتتْ لوهلة ثم امتلأت عيناها بدميعات شجية:«فقدتُ كلا والداي في حادث ومعهما فقدت كل شيء جميل في الحياة»؛ لا أعلم أي طاقة نزلت لتمنع دموعي وتحتجز مشاعري. I am sorry، وأكملت باقي الأسئلة تِباعا.. غادرَتْ المقعد بخطوات ثقيلة ومشاعر أجزم أنها لو فاضت لأغرقت أهل الأرض جميعا. أسندتُ رأسي على ظهر كرسيي وحدقتُ بعينّي طويلا وفي جعبتي ألف سؤال.
كم منا من لديها تلك النعمة ولم تعرف لها قدرا؟ كم من طالبة وضعت بينها وبين والديها حواجز بسبب اختلافات رأي بحجة أنها «جامعية» ولم تعد صغيرة بحاجة الى نصائحهما؟ أو تمر عليها ليال لا تدخل فيها غرفة والديها بحجة انشغالها بدراستها؟
كم من موظفة أو أستاذة أنستها أعباءها الوظيفية من كانا سببا رئيسيا فيما وصلت إليه من مراتب فباتا يترقبان ذهابها وإيابها بحسرة علها تجبر خواطرهما بكلمة؟
كم منا من أصبحت زوجة وأما وحالت بينها وبين والديها فجوات مكانية وزمانية فأخذتها تبريرا للتقصير في حقهما؟
كم منا من أصبحت لا ترى في والديها سوى تجارب وخبرات قديمة لا تليق مع زمن العولمة والتطور؟
كم منا من أصبحت ترى في نفسها خصوصية وثقة عمياء بذكائها فكان سببا في تهميش مؤلم لوجودهما؟
كم منا من تتألق محبة للخيرمساعدة للغير ذات مواقف ومبادرات وفي بيتها قلبان تفطرا ولَهـاً لمجرد «كيف الحال أمي وأبي»؟
إلى متى هذا التقصير والجفاء في حق آبائنا وأمهاتنا؟ أننتظر أن يغُلق بابا الجنة هاذين حتى نشعر بقيمتهما؟
هلا نظرنا الى من فقدت والديها أو أحدهما فلا هي في عداد الأحياء ولا هي في عداد الأموات؛ فقد الوالدين أن تخلدي غصة أبدية وسط حلقك.
أن تزرعي شجرة صبار على شفتيك؛ أن تُعمَدي بالنار في عز الهجير؛ أن تفقدي ألوان الحياة كلها؛ وان تحفري قبرا آخر بين «الألف والميم» أو بين «الألف والباء». 
فرفقا بوالدينا؛ لطُفاً بقلوبهما؛ برِاً بهما؛ وهرولة إلى قدميهما اليوم، قبل فوات الأوان!