الثقافة والفعل الحضاري
تعتبر الثقافة أساس الفعل الحضاري في مختلف المجتمعات البشرية باعتبارها المحرك الجوهري للوعي والتنوير في أوساطها مثلما يؤكده المفكر الايطالي "أنطونيو غرامشي" في كتابه "دفاتر السجن" على أنها القاعدة الضرورية للتواصل التنموي الفعال بين الأجيال.
وفي هذا الإطار وفي عصرنا الرقمي المعاصر الذي هيمنت فيه التقنيات الحديثة على ديناميكية الحياة الإنسانية بشكل كبير مما أدى إلى انحسار الدور الإنساني للثقافة في بعدها الإبداعي والتنويري لتطور المجتمعات . وتَشَكَّل بذلك تيار فكري جديد يدعو إلى تمجيد الفعل الثقافي وجعله أساس السلوك والعمل الإنساني في مختلف المجالات المرتبطة بالتنمية والتطور.
ويعتبر المهندس المعماري الفرنسي العالمي " أندريه رافيرو" André" Raverau " من الأوائل الذين تبنوا هذا التوجه الفكري وجعل للثقافة أولوية على التقنية من خلال مزجه الكبير للثقافة بالهندسة المعمارية في أعماله فأنتج بذلك تحفا عمرانية عالمية رائعة عكست بإبداع جميل الموروث الثقافي للمكان والبعد التقني الحديث للزمان.
إن الثقافة بالنسبة لهذا المهندس المعماري "رافيرو" تمثل القاعدة الأساسية للحضارة والشرط الضروري لنهضة الأمم ودفع عجلة تقدمها إلى الأمام , بحيث يشير في كتابه الذي يحمل عنوان " درس في الهندسة المعمارية" أن تجارب التاريخ تبيِّن أن الثقافة هي المنطلق الوظيفي لبناء الحضارة الإنسانية في مختلف الحقب التاريخية القديمة في بعدها الإنساني والأخلاقي وأن انتشار التقنية واستعمالاتها المتعددة في العصر الحديث وخاصة مع انفجار الثورة الرقمية ارتبكت القيم الأخلاقية في المجتمعات فأصبحت تعيش أزمة إنسانية في غياب لدور قيادي للتغيير الواعي الذي يستند إلى مرجعية فكرية ثقافية أصيلة.
وبالتالي فبالرغم من هيمنة التقنية على اتجاهات التغيير والفعل السلوكي في الأوساط الاجتماعية الراهنة إلا أنه يجب أن تسترجع الثقافة دورها الريادي والمحوري في المجتمع لتفعيل الأداء الضروري والفعال للتفكير السليم المبني على الأخلاق والإنسانية من أجل ترسيخ الوعي بالذات الحضارية والقيم الإنسانية في مجتمعات العصر الحديث.