الجزئيات الصغيرة والمعاني المتغيرة

أستاذ مشارك بقسم الإعلام والاتصال
تاريخ التعديل
سنة واحدة شهران

قبل أسبوعين قرات كتابًا ماتعًا بعنوان "فيزياء الجسيمات الصغيرة" لمؤلفه العالم الفيزيائي البريطاني "فرانك كلوس "، يتحدث فيه عن اكتشاف وجود عالم جديد  يحيط بواقعنا المادي، مكون من ذرات وأجزاء صغيرة جدًّا، تحكمها ضوابط وقواعد فيزيائية مختلفة عن التي نعرفها في فيزياء المادة التقليدية، التي تُسمَّى "ميكانيكا الكمّ" التي من شأنها أن تغير مفاهيمنا المعرفية القديمة للمادة ولاسيَّما ما يتعلق بسرعتها في الزمن الماضي والحاضر والمستقبل، الأمر الذي أكده المفكر الفيزيائي الشهير "إلبرت إينشتاين"  في نظريته التي سمَّاها (النسبية العامة) في عام 1915م،  مغيِّرًا بها العديد من الحقائق المعرفية والمسائل البحثية في علم الفيزياء والفلك والذرة؛ حتى قال عنه الكاتب الإيرلندي الكبير "جورج برنارد شو" في خطاب له عام 1930: "إن "نابليون بونابرت، ورجالًا عظماء مثله، بنوا  إمبراطوريات، ولكن أينشتان وأمثاله بنوا أكوانًا كاملة".

 فعالم الجسيمات الصغيرة كان يثير اهتمام " إينشتاين" بشكل كبير ممَّا جعله يفكر بشكل عميق في تفاصيل الأشياء وجزئياتها الصغيرة ليجد لها المعاني المناسبة .

فقصة تأسيسه لنظريته "النسبية العامة" التي هي رؤية فيزيائية في حركة المادة وجزئياتها الصغيرة في الزمان والمكان مطوِّرًا بها نظرية "إسحاق نيوتن" في الجاذبية  قد بدأت عندما رأى من نافذة مكتبه بالجامعة الألمانية "برلين" عمالًا يشتغلون على سطح المبنى المقابل، ولاحظ سقوط بعض معداتهم في أثناء انهماكهم في العمل، فتولَّدت لديه فكرة جديدة مفادها: أنّ سقوط الأجسام يكون في حالة انعدام الوزن المكافئ للسقوط الحر وتفسر العلاقة بين الجاذبية وهندسة المكان، فتمخّض عن هذه الملاحظة أحد المبدأين الأساسيين في النظرية النسبية التي وضعها، والمعروف بـ"مبدأ التكافؤ"، أمّا المبدأ الثاني فهو "مبدأ النسبية"، وهذه الفكرة الصغيرة التي انتبه إليها "إينشتاين"  بخياله الجامح في تفسير التفاصيل أدّت إلى تغيُّر كامل في عالم  الفيزياء وظهور معاني أخرى مختلفة في شرح مختلف الظواهر الطبيعية في سياقاتها الزمانية والمكانية، وهذا ما تشير إليه الأبحاث الجديدة في فيزياء الجسيمات الصغيرة.

فالتفكير بعمق في عوالم الجزئيات ثبت علميًّا أنّه يؤدي بنا إلى فهم آخر، مختلف للأشياء في ماهياتها المادية والمعنوية، فهناك تفاصيل صغيرة تحدث في حياتنا قد نمرُّ عليها مرور الكرام ولا ندرك أهميتها وتأثيرها، رُبَّما لصغر حجمها أو لعدم اكتراثنا بها، وأصبحنا بذلك نعيش من دون أن نشعر داخل أطر نمطية من التفكير الكلي الأحادي للمعنى.

 فعلى سبيل المثال نحن دائما نقوم دائمًا بالأعمال  اليومية الروتينية نفسها، وإنّ الذي يجعل منها مختلفة في معناها ولا يعطي لها صفة الجمود، هو اهتمامنا بالتفاصيل والأجزاء الصغيرة التي تكتنفها، وفي كل الأحوال قد تكشف لنا جوانب أخرى ما كنا لنعرفها لو بقينا داخل الرؤية الكلية لمجريات حياتنا، فهناك معاني كثيرة في جزئياتها سواء منها الإيجابية أو السلبية، فالكاتب الروسي "دوستوفسكي" يقول في كتابه "الإنسان الصرصار": " توجد متعة في الألم ونشوة في الشعور، أنّك في الحضيض بمعنى أنّ "أسوأ" التفاصيل يمكن أن تجد فيها مغزى وأن تعطي لها معنى، وبدل أن تهزمك يمكن أن تحس بقيمة وجودها"، ويقول أيضًا الكاتب الفرنسي "البيرت كامو":  "علينا أن نعطي معنى لكلّ شيء نصنعه، ونعيش تفاصيله الصغيرة ونتماهى مع معانيه التي تتعدد؛ نظرًا لاختلاف رؤيتنا لها، فهذا يدفعنا إلى التجديد والتطور".