المجتمعات السائلة؟!
في خضم الزخم الهائل والإثارة الرائعة لمباريات كأس العالم استرعى اهتمامي وأنا أشاهد إحدى المبارايات الكروية في قناة تلفزيونية فرنسية إعلان عن برنامج حول حياة عالم الاجتماع الشهير "سيجموند بومان" "Sygmmund Bauman" في قناة تلفزيونية أخرى فلم أجد بدا إلا أن أوقف مشاهدتي لهذه المباراة وأغير القناة لأتابع مسيرة حياة هذا العالم البولندي الكبير الذي أعتبره أحد رواد التفكير النقدي الحديث من خلال آراءه الرائعة في العديد من كتبه حول موضوع النقد وتجلياته التي مازالت تثير الكثير من الجدل والنقاش في العديد من الدوائر الفكرية والبحثية في العالم, خاصة انعكاساتها المختلفة على مجريات الأحداث والتطورات التي شهدتها المجتمعات الانسانية في السنوات الاخيرة أين ظهرت تحولات جوهرية في العلاقات الانسانية مست بشكل خطير منظومة القيم المختلفة في أوساط شعوب المعمورة.
لقد طرح هذا المفكر الاجتماعي فكرة النقد السائل للمجتمعات الغربية في سياق مراحلها التاريخية وصولا للعصر الراهن ليفسر من خلالها أسباب تطورها والتغييرات الفكرية التي تعتريها اجتماعيا وثقافيا واقتصاديا , بحيث اعتبر أن التقدم التقني الذي تشهده مختلف المجالات الحياتية للإنسان المعاصر قد هيمن على تعاملاته وغيَّر من رؤيته لواقعه ومستقبله وللآخر من حوله واستحوذت نزعة الاستهلاك السائل على سلوكياته .
يؤكد هذا الفيلسوف " بومان" أن المجتمعات المعاصرة بفعل تأثيرات التقنية والعولمة قد أصبحت سائلة بتوجهها الى تقديس الحرية الفردية والاستهلاك اللامحدود لكل شيء في الزمان والمكان, ولم تعد في ظل هذه التغيرات للمنظومة الفكرية والسلوكية حتى الحدود السيادية للدول محترمة كما كانت في الماضي فقد غير تدفق المهاجرين والسلع والأموال والمعلومات من واقعها وأدى الى انكماش الثقة ونشوب صراعات إيديولوجية واقتصادية أججت نزاعات حول الهوية والثروة وجعلتها تغرق في تحولات وتمظهرات "سرطانية" سريعة عقدت مسار الحياة واستقرارها الاجتماعي والأمني والثقافي واختلت بتأثيراتها موازين الأمور فجعلت الناس يعيشون في فوضى القيم والأفكار.
إن المجتمعات السائلة حسب تعبير "بومان" يُعدُّ التطور السلبي في العصر الراهن للمجتمعات المعاصرة التي أصبحت تعيش أزمات إنسانية خطيرة قد تضفي الى الفوضى التي تكلم عنها المفكر السياسي الأمريكي "فرانسيس فوكوياما " في كتابه الشهير الذي يحمل عنوان "نهاية التاريخ والإنسان الأخير " الذي ألفه في عام 1989م.
وعلى هذا الأساس فيجب علينا في مجتمعاتنا أن نتجنب الفردانية في التفكير والاستهلاك المفرط لكل شيء وأن نترك الأنماط المقولبة للسلوكيات التي تسوقها وسائل الإعلام الحديثة وخاصة شبكات التواصل الاجتماعي ومواقع الانترنت التي هيمنت على إدراكات الناس من حولنا عبر نشرها لثقافة التفاهة بمختلف أشكالها وأنواعها ونحاول أن نعمل ونسعى جاهدين الى العقلانية في التفكير وخاصة الاهتمام بالعلم والأخلاق اللذين من خلالهما نستطيع أن نخرج من الانتقالية الحضارية ونسير الى التنوير لإدارة تغيير اجتماعي وثقافي يدفعنا نحو التطور والنماء .