النَّقد البنَّاء
قبل أيام قليلة فقط اطلعت على رواية قديمة مميزة للكاتب والفيلسوف السياسي الانجليزي "توماس مور" بين فيها قواعد استمرارية الثقافات والحضارات والتي ناقشها أيضا الفيلسوف اليوناني الكبير أفلاطون في كتابه الشهير "الجمهورية" وبين خصائصها وتطوراتها المفكر الأمريكي "صمويل هتنغتون" في كتابه "صدام الحضارات".
إن الذي أعجبني في هذه الرواية هو أنها تعرضت إلى أهمية النَّقد البنَّاء في تأسيس الحضارة وتجديد النهضة فيها وهذه الظاهرة النقدية للأسف أصبحنا نفتقدها في العصر الحديث الذي نعيشه والذي تشهد فيه المجتمعات تحولات جذرية في مختلف المجالات الحياتية فقد انحسر وجود هذا النقد بشكل بارز في المعاملات اليومية للناس وفي مواجهاتهم للظروف وتفسيراتهم للأحداث المحيطة بهم مما أدى الى توسع كبير لرقعة الجمود والتقوقع في الفعل الثقافي والحضاري في الأوساط الاجتماعية.
يعتبر النَّقد في حقيقته وجوهره فكرة موضوعية يمكن قياسها والبناء عليها تأصيلا وتفريعا مثلما يؤكده المفكر الألماني "هربرت ماركوزه" في كتابه الشهير " الأخلاقيات الدنيا: انعكاسات الحياة المتضررة " الصادر عام 1951م والذي أسس من خلال الأفكار التي طرحها المدرسة النقدية الألمانية المسماة بمدرسة فرانكفورت التي حولت التفكير الأوروبي بعد الحرب العالمية الثانية من النمط البرغماتي الانتقالي الى الحداثي النقدي , ويعتقد المؤرخون والباحثون في حياة الأمم والشعوب أن سقوط الحضارات والثقافات ليس من الضروري أن يكون بسبب الغزو الاستعماري ولكن قد يحدث من جرَّاء الجمود الذي يعتري العملية النقدية البناءة بداخلها, وهذا ما يؤكده المؤرخ البريطاني "ارنولد توينبي" عندما قال "أن الأمم لا تعتل بل تنتحر وتسقط حينما لا تتقبل النخب النَّقد البنَّاء فتدخل في متاهات صراع دائم يكبلها ويعجزها عن ابتكار حلول لمشاكلها وأزماتها" .
ولكي نتعامل بشكل فعال وسليم مع الواقع الذي نعيشه بمختلف تجلياته ونستطيع ضبط مساراته وتصحيح انحرافاته ونتمكن من التحكم في تحديد اتجاهاتنا نحو المستقبل فمن الضروري علينا أن نضع نصب أعيننا مقولة عالم الرياضيات والفيزيائي الفلكي الألماني " يوهانس كليبر " "أنا أفضل النَّقد الحاد من شخص واحد ذكي على التأييد الأعمى للجماهير " ونسعى الى تقبل النَّقد البنَّاء بصدر رحب من كل شخص يوجهه لنا ولا نؤطر عقولنا في الخيارات الثنائية "هل أنت مع أو ضد " وانما نطلق عنانها في التفكير النقدي الإيجابي مع ربطه بالنسق الاجتماعي القيمي لتحريك وتسريع عجلة التقدم والتطور في مجتمعاتنا لأن النَّقد البنَّاء للتجارب السابقة كما تبينه حركة التاريخ وتفاعلها المركب مع الانسان من شأنه أن يفتح آفاقا واسعة تميز أي مشروع تنموي تؤطره المبادئ والمفاهيم العقلية ويحدد بشكل منطقي معالم نجاحه في الحاضر والمستقبل .