الروح.. أم صورة اللحمِ والدمِ؟

تاريخ التعديل
سنتان 8 أشهر
Afaq logo

إن من أهم أساليب التربية أن تقوم بتنمية الهوية داخل الفرد، وتقوم بإيجاد الإجابات الصحيحة على الأسئلة الوجودية التي لا يخلو ذهن إنسان من البحث عن إجابات لها، إجابات تتوافق مع فطرته التي خلقه الله عليها، ولعل من أهم تلك الأسئلة هو: من أنا؟
إن الإجابة على هذا السؤال سيترتب عليها الكثير من التوافق الفطري، والذي سيجعل الإنسان يسير وفق هدى التربية الإسلامية، يأخذ بهداياتها، ويتحقق فيه التوازن المثالي في التعامل مع متطلبات الحياة، متطلباتها التي تتعلق بعلاقته بخالقه، وعلاقته بذاته، وعلاقته بمن حوله من البشر، وعلاقته بالمخلوقات ككل، بل بالكون بأكمله، إن هذا التوازن سينقل الإنسان من كونه يعيش بنصف إنسان يتعامل فقط مع الماديات، أو مع الناس لأجل المادة فقط، إلى أن يكون إنساناً متكاملاً متوازناً، ولكن السؤال: هل يعقل أنني لست مكتملاً حتى الآن؟ هل يعقل أن البشرية اليوم ساهمت في إماتة النصف الأهم مني؟ ذلك النصف الذي ليس من الطين وإنما من السماء، ذلك النصف الذي إذا حضر الموت صعد للسماء وترك الجسد يعود لأصله، ويدفن في نفس النوع الذي خلق منه؟
لقد ازددت شوقاً لأعرف من أنا حينما وقفت على قول الله سبحانه وتعالى: (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي). جُلت في كتاب الله كثيراً أبحث عن نصفي الآخر، أبحث عن الروح التي بين جنبي، عن شرابها، وغذائها، عن دوائها حال المرض، عن المصانع التي تساهم في بنائها وتقويتها، عن أي شيء يخصها؟
عرفت أن ما كان من أمر ربي، فلا يمكن لأحد من البشر أن يساهم في بنائه، وغذائه، وطعامه، وشرابه، ودواءه إلا الله وحده، ونفخ في جسد الإنسان من روحه، الله الذي استأثر بمعرفة معنى الروح لذاته سبحانه.
إنه الله الذي عمت رحمته البشرية، فخلق آدم وجعله نبياً وجعل له شريعة يسير وفق نظامها، وأحكامها، يسير وفق نواهيها، وواجباتها، تضبطه وتحوطه ليكون سيره إلى ربه وفق السير الذي حثه الله عليه، وبقيت أمة آدم على تلك الشريعة عشرة قرون تعطي الجسد حقه والروح حقها بصورة متوازنة مذهلة، ثم عاث الإنسان فساداً، وحرَّف تلك الشريعة، ولم يحسن التعامل لا مع الروح، ولا مع الجسد، فأرسل الله يونس عليه السلام، بشريعة أخرى وأعاد البشرية للطريق السليم الذي يراعي فيه حق الروح وحق الجسد، فبقيت ما شاء الله حتى عاث الإنسان من جديد في تلك القوانين الضابطة لهذا الإنسان، وما زال الله يرسل الأنبياء والرسل لإعادة البشرية للطريق السوي بنبي جديد وشريعة جديدة، كل ذلك رحمة بالإنسان وحفاظاً على أن يكون طريقه إلى خالقه سوياً سليماً متوازناً في التعامل بين الروح والجسد لا يتم التعامل مع أحدها دون الآخر.
هذا الإنسان الذي خلق الله لأجله السماوات والأرض، وأرسل الرسل، وبينت كل شريعة من الشرائع السماوية الطريقة المثلى في التعامل مع الروح ومع الجسد، حتى كانت خاتمة الشرائع السماوية شريعة محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذه هي التربية في أكمل صورها، التربية التي تدرك مقاصد الوحي، وتنير للإنسان طريقه نحو ربه، وتحقق التوازن المنضبط بين حقوق الروح وحقوق الجسد.

 

د. عبد الرحمن الحارثي