ما وراء الجزئيات

أستاذ مشارك بقسم الإعلام والاتصال
تاريخ التعديل
سنتان 8 أشهر

قبل أسبوعين قرأت كتابا أثار انتباهي وإعجابي يحمل عنوان" النسبية في متناول الجميع" للكاتب "جيمس كولمان" الذي يتحدث فيه عن ضرورة الاهتمام وإمعان العقل في الجزئيات باعتباره أسلوب متقدم في نمط التفكير بحيث أنه من خلاله استطاع العالم الفيزيائي الكبير "البرت أينشتاين" أن يبتكر نظريته التي سماها "النسبية " مغيرا بها العديد من الحقائق المعرفية والمسائل البحثية في عالم الفيزياء والفلك والذرة حتى قال عنه الكاتب الإيرلندي الشهير "جورج برنارد شو" في خطاب له عام 1930، " إن "نابليون بونابرت" ورجالا عظماء مثله بنوا  إمبراطوريات، ولكن "أينشتان" وأمثاله بنوا أكوانا كاملة " 

لقد توصل" أينشتاين" إلى نظريته من خلال التفكير العميق في تفاصي الأشياء والظواهر التي تحيط به ويبحث لها عن المعاني المناسبة, ففي يوم من الأيام بينما هو جالس في مكتبه بجامعة برلين رأى من النافذة عمالا يشتغلون على سطح المبنى المقابل، ولاحظ سقوط بعض معداتهم أثناء انهماكهم في العمل فتولدت لديه فكرة جديدة مفادها أن سقوط الاجسام تكون في حالة انعدام الوزن المكافئ للسقوط الحر وهذا أدى به الى تفسير العلاقة الموجودة بين الجاذبية وهندسة المكان فتمخّض عن هذه الملاحظة الدقيقة والعفوية المبدأين الأساسيين في النظرية النسبية وهما ـ"مبدأ التكافؤ", و"مبدأ النسبية", وهذه الفكرة الصغيرة التي انتبه إليها" أينشتاين"  بخياله الجامح في تفسير الجزئيات البسيطة لحركة الأجسام المختلفة من حيث حجمها وسرعتها أدّت الى انقلاب كامل في عالم  الفيزياء وظهور معاني أخرى مختلفة في شرح مختلف الظواهر الطبيعية في سياقاتها الزمانية والمكانية.

فبعد نظرية "النسبية " استطاع الانسان من خلال توجهه الى التفكير بعمق في عوالم الجزئيات أن يتوصل الى اكتشاف "علم النانو" الذي أدخل البشرية في عالم الجزئيات الصغيرة وما وراءها للمادة باختلاف أنواعها وأشكالها مما أدى  إلى تطور مذهل في مناهج التفكير والبحث والى فهم مختلف لتفاصيل الأشياء والقضايا في واقعها الطبيعي فهناك تفاصيل صغيرة تحدث في حياتنا ونمر عليها مرور الكرام ولا ندرك أهميتها وجمالها ربما لصغر حجمها أو لعدم اكتراثنا بها أو لأننا تعودنا أن نضع على أعيننا غشاوة تحجب عنا رؤية الجزئيات من الأمور وأصبحنا نعيش داخل أطر نمطية من التفكير الكلي الأحادي للمعنى.

 فمثلا نحن نقوم  بنفس الأعمال  اليومية الروتينية  والذي يجعل منها مختلفة ولا يعطي لها صفة الجمود هو اهتمامنا بالتفاصيل الصغيرة التي تكتنفها وتعطي لها معاني متعددة تثري رؤيتنا لواقع الأمور والأحداث وفي كل الأحوال قد تكشف لنا جوانب أخرى ما كنا لنعرفها لو بقينا داخل نظرتنا الكلية لمجريات حياتنا, فهناك معاني كثيرة في جزئياتها سواء الإيجابية أو السلبية فالكاتب الروسي "دوستوفسكي" يقول في كتابه "الإنسان الصرصور" أنه توجد متعة في الألم ونشوة في الشعور أنك في الحضيض أي أن "أسوأ" التفاصيل يمكن أن تجد فيها مغزى وأن تعطي لها معنى آخر إيجابي فبدل أن تهزمك يمكن أن تشعر بقيمة وجودها, ويقول أيضا الكاتب الفرنسي "البير كامو"  علينا أن نعطي معنى لكل شيء نصنعه، ونعيش تفاصيله ونتماهى مع معانيه التي تتعدد نظرا لاختلاف رؤيتنا لها فهذا يدفعنا الى تغيير أسلوبنا في التفكير وفي المعاني والدلالات التي نسقطها على واقعنا مما يؤدي الى الإصلاح والتطوير وإنتاج الإبداع والابتكار.

 

obousada@kku.edu.sa